ليس عيبًا أن نضع الإصبع على الجرح إن أردنا الشفاء، وليس عيبًا أن نُشير، وبكل جرأة وبصوت عال، إلى أماكن الخلل، وليس عارًا إذا قلنا بأن التعليم في تراجع مستمرّ، ومن لم يقرّ بذلك فكأنّه لا يريد أن يرى.
إنّ ما يمرّ به التعليم، في الفترة الراهنة من أزمة تعليميّة، في شتّى المستويات، أمر لا يخفى على أحد، فتراجع مستوى التعليم في بلادنا صار أمرًا واقعيًّا وحقيقيًّا وملموسًا، وسأورد بعض الأسباب التي أدّت، من وجهة نظري، إلى تدهور العمليّة التعليميّة، وأبدأ بالطالب وافتقار الدافع الوجدانيّ لديه تجاه العمليّة التعليميّة.
1. الطالب
فقدان الرغبة في التعليم جعلت التعليم في تراجع، وهناك العديد من العوامل التي جرّدت الطلاب من الدافعيّة والرغبة في التعليم، وتتمثل بغياب الهدف الذي يوجّه الطالب إلى الطريق الصحيح؛ فأصبح الطالب تائهًا لا يعلم أي طريق يسلك، ويجد نفسه منساقًا مع أي تيّار يواجهه. وما زاد الطين بلّه، وجود مواقع التواصل الاجتماعيّ التي أصبحت جزءًا أساسيًّا من حياتهم، بل أصبحت هي مصدر معلوماتهم، فباتت أولى مسؤوليات الطالب أن يفتح مواقع التواصل الاجتماعيّ قبل أن يفتح عيناه، ويكون الطالب بذلك قد تشرّب الأفكار والمنشورات قبل وصوله للمدرسة، وما إن وصل إلى المدرسة يكون قد قد اكتفى بكم المنشورات التي قرأها صباحًا فأصبح غير قادر على استيعاب القدر الكافي من المعلومات.
طلابنا يبحثون عن أنفسهم داخل وجوه المشاهير الوهميّة، ولربما ينساقون إلى وجوه بريئة تحمل بين طيّاتها رسائل خفيّة تسحبهم إلى الوحل والدمار، فدور المشاهير في التأثير على عقول طلابنا كبير فنجدهم يتصرّفون مثلهم جسدًا ولغةً، إذ وصل الطلاب إلى الحدّ الذي يُمكننا أن نعبّر عنه بأن الطالب لا يستخدم عقله ليميز مابين الصواب والخطأ وما بين ما يتناسب مع قيمنا وديننا وما لا يتناسب. أصبح الطلاب الوعاء الفارغ الذي يضع فيه الفاسدون أخلاقيًّا أفكارهم المدمّرة، فأصبح الطالب فارغ من كل شيء، فارغ لغةً وفارغ أفكارًا وحتى قيمًا، كما أن غياب القدوة الحسنة ترك أثرًا بالغًا في حياة الطلاب، فقدوتهم لا تتعدّى كونها ممثل أو ممثلة أوعارضة أزياء أو أحد المشاهير، فلكم أن تتخيّلوا تصرفات الطلاب عندما تكون حياتهم كقدوتهم.
واعتقادي بأنّنا على حافّة الهاوية، إما أن ننقذ ما يمكن إنقاذه، أو نتركهم لمستقبل مدمّر.
ولا نغفل دور الأسرة التي تتمثّل بدور الأب ودور الأمّ، دون الإقتصار على دور الأم فقط، فغياب الدور المشترك ما بين الأمّ والأب في رعاية وتربية أبنائهم قد انعكس سلبًا على الأبناء، وقد باتت ممكنًا ملاحظة ضعف هذا الدور الممتزج بإهمالٍ من الوالدين، يرجع، في أحيانٍ كثيرة، إلى ضغوط حياتيّة أو مهام مُجتمعيّة على الوالدين، وهنا يفتقد الطفل للتوجيه الإرشاديّ، ما يؤدّي إلى احتمالات كثيرة أمام مسار الطفل، منها الضياع وفقدان الهدف والدافعيّة.
إذا أردت أن تهدم أمّة فعليك بهدم الأسرة وهدم المعلّم وهدم القدوة.
وهذا ما تمّ بالفعل، ولم يكن هذا الضياع عبثًا بل كان مُخطّط له منذ فترة طويلة فهذا هدف "الغزو الثقافيّ"، الذي وصل إلى كلّ منزل تحت مظلّة التسلية دون الوعي الكامل بمخاطره، ولم ندرك مخاطره إلّا بعد 19 سنة، فقد بدأ هذا الغزو عندما بدأت القنوات العربيّة ببثّ بعض البرامج التي تحرّك مشاعر المراهقين وتجذب اهتمامهم وتغيّر مبادئهم، فقد كانت هذه البرامج الكارثة الأولى التي قبلنا بدخولها إلى منازلنا، ومن ثم توالت البرامج المدمّرة للأخلاق التي بدأت بالانتشار وترعرعت باهتمام داخل بيوتنا، لكم أن تتخيّلوا حجم الكارثة التي حصلت وستحصل الأيّام القادمة، بأن هذا الذي يتابع هذه القنوات ويهتمّ بهذه البرامج سيصبح قائد جيل المستقبل.
2. فجوة بين عناصر العمليّة التعليميّة
هناك فجوة كبيرة بين عناصر العمليّة التعليميّة، فعندما يتم إفراغ المحتوى التعليميّ من قيمته التعليميّة والتربويّة كالقيم والاتجاهات والمبادئ التي يجب أن تدرس قبل المحتوى التعليميّ، سيحصل لنا ما يحصل الآن، وعندما يركّز الكتاب المدرسيّ على المعارف أكثر من تركيزه على الفهم والتطبيق، ويترك اكتشاف الذكاءات المتعدّدة لدى الطلاب دون موجه سيحصل لنا ما يحصل الآن. كما أنّ مناهجنا لا تهتم بالجانب الوجدانيّ والنفس حركيّ، ما يستدعي من المعلّم بذل جهد إضافيّ لمحاولة التوازن بين الأهداف السلوكيّة الثلاث، وإن كان المعلّم غير قادر على تحقيقها بشكل متوازن، أصبحت العمليّة التعليميّة مملّة وهذا ما نجده فعلًا في مدارسنا.
فنحن نقتل طلابنا في المعارف التي يمكن أن يحصلوا عليها بشكل تلقائيّ، ولذا نحن بحاجة إلى تطبيق أساليب يستطيع من خلالها الطالب استنتاج المعلومات البحث عنها وابتكار حلول لها في بعض الأحيان، وما يقتل المنهج، أيضًا، عدم تقبّل المعلّم، في بعض الأحيان، لهذا النهج من التدريس ما يؤثر سلبًا على ذكاءات الطلاب ورفع قدراتهم، ويبقى على الطالب مهمة حفظ المعلومات ونسيانها بعد الإمتحان وهكذا يكن دوره قد انتهى في هذه المرحلة، ليبدأ في العطلة الصيفيّة بعمل "إعادة ضبط للمصنع"؛ أي "فرمات" الدماغ من كافّة المعارف حتى يبدأ السنة الدراسيّة الجديدة بعقلٍ خالٍ يراكم المعارف الجديدة إلى نهاية السنة وهكذا، لذلك يخرج أبناؤنا من المدرسة لا يستطيعوا المناقشة ولا المحاورة او حتى تذكر المعارف التي تم طرحها بالمدرسة.
3. مخرجات التعليم بين المدارس والجامعات
هنا نصل إلى معضلة جديدة تتمثّل بأنه لا يوجد ربط بين مخرجات التعليم في مدارسنا ومخرجات التعليم في الجامعات، ما يستدعي إعادة النظر في هذه المخرجات لتتلاءم وسوق العمل، وما يستدعي الوقوف أيضًا على هذه المعضلة، هو مشاهدة بعض الطلاب الذين حصلوا على معدلات شبه ممتازة في الثانوية العامّة غير قادرين على إثبات قدراتهم في سوق العمل، وهذا ما يثبت لنا الفجوة ما بين تعليم المدارس وتعليم الجامعات وسوق العمل أيضًا.
4. المعلّم
ما يجدر ذكره أيضًا، والتركيز عليه المعلّم الذي يعدّ العنصر الأساسيّ في العمليّة التعليميّة، فإرهاق المعلم بالأعمال الكتابيّة، التي لا داعي لها، قلّلت من قدرته على التركيز الكامل في إعطاء المادّة التعليميّة، كما لا نغفل نوعية التدريبات التي يتلقّاها المعلّم، فقد جعلته في دائرة النمطيّة وعدم الخروج عن المألوف، بالتالي أصبحت النمطيّة، التي يتّبعها المعلّم في التدريس، مفروضةً عليه ضمن إطار تربويّ محكم، فهو محكوم بعدد الصفحات التي يجب انجازها والانتهاء منها قبل انتهاء الفصل الدراسيّ.
كما أنّ تهميش دور المعلم في تطوير المناهج التعليميّة ووضعها ظاهر جليّ، فعند النظر إلى لجنة التوثيق الوطنيّة نجد أنها تقتصر على أساتذة الجامعات والمشرفين وتُغيّب دور المعلّم الذي هو في الميدان، واقتصر دوره على ورش العمل بعد وضع المقرّر الدراسيّ، ما أثّر سلبًا على ملاءمة المنهاج لقدرات المعلّمين قبل المتعلّمين.
5. غياب التخطيط الاستراتيجيّ
ولا ننسى غياب الخطط التعليميّة الخمسيّة أو حتى العشريّة للارتقاء في العمليّة التعليميّة، ما أدّى الى غياب الهدف المنشود الذي يؤدّي بدوره إلى غياب النتائج التعليميّة التي تسهم في إرتقاء العمليّة التعليميّة. ولا ننسى أن العمليّة التعليميّة ترتكز على العطاء وعند غياب عطاء المعلّم لأسباب صحّيّة أو اقتصاديّة أو نفسيّة تؤدّي إلى تدهور العمليّة التعليميّة، ففي هذه الحالة، يجب فتح باب التقاعد لمن يرغب وفتح فرصة للخرّيجين بأن يساهموا في رُقِيّ العمليّة التعليميّة.
كما أن غياب الحوافز للمعلّمين المتميّزين ساهم في تراجع العمليّة التعليميّة فأصبح من يعطي بتميّز ومن لا يعطي في كفّة واحدة والكارثة الكبرى هي غياب حقوق المعلّمين في الحصول على رواتب تضمن لهم الحياة الكريمة، فبات المعلّم يبحث عن مهنة أخرى إلى جانب التعليم ليعيل أسرته. ما أدّى إلى تسرّب الطلاب الذكور من التعليم الجامعيّ للبحث عن حياة اقتصاديّة كريمة خارج أسوار التعليم، ما قاد إلى نقص المعلّمين الذكور في المدارس والتحوّل الى تأنيث التعليم.
6. المجتمع
لنظرة المجتمع دور كبير في تراجع العمليّة التعليميّة، إذ قُسّمت المهن والتخصّصات حسب المستوى الاجتماعيّ، فالنظرة الموجّهة للطالب الذي يدخل كلّيّة الطب والهندسة تختلف عن النظرة الموجهة للطالب الذي يدخل كلّيّة التربية، فأصبح توجّه الطلاب، خاصّة المتميّزين منهم، نحو التخصّصات التي تحتلّ قيمة ومنزلة أكبر في نظر المجتمع بغضّ النظر عن المخرجات التعليميّة والقدرة على التغيير.
كل هذه المعطيات كانت سبب في تراجع العمليّة التعليميّة، وهنا يكون السّؤال:
أمام هذا الواقع وهذا الشتات، هل ستحمل الأعوام المقبلة تغييرًا إيجابيًّا في العمليّة التعليميّة أم ستكون أسوأ من سابقتها؟