أذكر أستاذ علوم الحياة، رحمه الله، الذي علّمني في الصفوف الثانويّة. أتذكّره حتّى الآن بالتفاصيل، طريقة شرحه، المعلومات التي شرحها، رؤيته ولينه وحزمه، مزاحه وعصبيّته وحتّى ثيابه. تلك الذاكرة لم تنبع من العدم، إنّما من العلاقة التي كوّنها معنا ومن طريقة تعامله.
في عالم التعليم، يبقى المعلّمون الجيّدون في ذاكرة طلّابهم أبطالًا حقيقيّين، ليس فقط بسبب المعلومات التي يقدّمون، إنّما بسبب الطريقة التي يتواصلون بها، ويؤثّرون بها في حياتهم، ففي قلب كلّ تجربة تعليميّة، يتواجد عنصرٌ أساسيّ يمكن أنّ يؤثّر بشكل عميق في مسار الطلّاب الأكاديميّ والشخصيّ. قد يبدو الأمر بسيطًا، لكن تأثير المعلّم الجيّد في طلّابه يمكن أنّ يكون عميقًا وملهمًا. أين يكمن السرّ؟ يكمن السرّ في جوانب غير مرئيّة من العلاقة، تتجاوز حدود الفصول الدراسيّة والكتب.
من هو المعلّم الجيّد؟
العلاقة بين الطالب ومعلّمه هي أحد أهمّ عوامل النجاح في العمليّة التعليميّة ،إذ تسهم بشكل كبير في التطوّر الأكاديميّ والسلوكيّ وخصوصًا مع أقرانه، ففي دراسات كلّ من هاميل (2005) وكوربيت وويلسون (2002) التي أُجريت بناءً على شهادات أكثر من 400 طالب، أمكن دراسات تحديد الخصائص الآتية للمعلّمين الجيّدين من وجهة نظر هؤلاء الشباب الصغار:
- - يستمعون.
- - يعاملون الطلّاب بإنصاف.
- - صارمون، ولكن لديهم روح الدعابة.
- - يتأكّدون من أنّ الطلّاب يقومون بعملهم بشكل جيّد.
- - يديرون صفّهم بشكل مناسب، ولا سيّما سلوك الطلّاب.
- - منفتحون على مساعدة الطلّاب.
- - ينقلون تعليمات واضحة.
- - يحرصون على تنويع الأنشطة التي تجري في الصفّ.
- - يأخذون الوقت الكافي للتعرّف إلى طلّابهم جيّدًا.
لذلك يسعى المعلّمون الفاعلون لبناء علاقة متينة من خلال مجموعة من الأمور، والتي من شأنها تعزيز هذا الرابط، بحيث تقوم على الحبّ والاحترام والإخلاص والمودّة.
أسرار العلاقة الناجحة
لتكوين هذه العلاقة عدّة خطوات على المعلّم التمسّك بها، ويمكن تلخيصها في الآتي:
1. اعرف تلميذك: لمعرفة خفايا الطالب دور مميّز في إيصال المعلومة بطريقة سهلة، وكسر القيود بين الطلبة والمعلّم. إنّ الخمس دقائق المتاحة في بداية الحصّة للتحدّث عمّا يواجهون من مشاكل في المادّة، وإدخال اهتماماتهم في عمليّة الشرح، تحميهم من الشعور بالغربة في المدرسة، وتبني معهم تواصلًا مفتوحًا بصراحة وأريحيّة، قائمًا على النقد البنّاء.
2. النقد الإيجابيّ: التركيز على الجانب الإيجابيّ للطالب، يرفع همّته ويزيد من ثقته بنفسه. إنّ طريقة المحادثة مهمّة، وللانفعال ولغة الجسد دور بارز؛ تعابير وجهك ونظراتك وحتّى نبرة الصوت. كلّها مع بعضها تشكّل أركانًا أساسيّة في تكوين العلاقة، خصوصًا أنّ التعامل في الصفّ الواحد مع شخصيّات متعدّدة، تتعلّم بطرق مختلفة.
3. أنشطة تعاونيّة: تعزّز إنشاء رابط قويّ بين المعلّم والطلّاب، وتبني الثقة والتفاهم المتبادل.
4. تقييم مسار العلاقة: ينبغي عليك، معلّمًا، تقييم العلاقة من حين الى آخر، كيف؟ من خلال معرفتك بطلّابك: كيف يرحّبون بك؟ هل يعلمون أنّك تؤمن بقدراتهم؟ هل تخصّص وقتًا للحديث عن السلوكيّات غير اللائقة؟ هل تعاملهم باحترام بغضّ النظر عن ظروفهم وخلفيّاتهم الاجتماعيّة؟ هل تحافظ على هدوئك ومعاملة الطلّاب بشكل عادل ومنصف؟
حقوق المعلّم تجاه طلّابه
على الرغم من تحدّثنا عن طريقة تعامل المعلّم مع طالبه، وكيفيّة بناء علاقة ذكيّة، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حق المعلّم على طلّابه. لطالما كانت العلاقة فعل وردّ فعل، واليد الواحدة لا تصفّق. ولذلك، أصوغ بعضًا من الحقوق وجب على الطالب تلبيتها للمحافظة على الرابط: الإنصات للمعلّم وعدم مقاطعته، إضافة إلى اتّباع ما يطلبه المعلّم لما فيه من مصلحة الطلبة، إلى جانب احترام المعلّم من قبل الأهل وتقدير جهوده، والحافظ على اسمه ولقبه -أي مناداته بأستاذ فلان-، وعدم التدخل في حياته الخاصّة.
فوائد العلاقة الإيجابيّة مع الطالب
النتائج المترتبة على بناء علاقة إيجابيّة بين المعلّم والطلّاب كثيرة. فهي تسهم في النضوج الاجتماعيّ والوعي الفكريّ للطلّاب، ما يمكّنهم من تحقيق أداء أكاديميّ أفضل وتطوير مهاراتهم الشخصيّة. كما تمكّنهم من تخفيف التوتّر والقلق. فالطلّاب الذين يشعرون بالدعم والاهتمام من معلّميهم، يميلون إلى أنّ يكونوا أكثر تفاعلًا ونجاحًا في مسيرتهم التعليميّة.
أهمّيّة الرفاه النفسيّ للمعلّم
المعلّم الذي يتمتع برفاه نفسيّ يكون أكثر قدرة على إنشاء هذا الرابط والاهتمام بمكنوناته، لقدرته على تقديم الدعم بشكل وفير مما يحسّن من تجربته التعليميّة. لذلك، على المعلّم الاستفادة من الإجازات وتجديد طاقته، للمحافظة على توازنه النفسيّ.
وعلى إدارة المدرسة عدم تحميل المعلّم أعباءً غير قادر على إنجازها. كما أنّ البيئة المحيطة في العمل والدعم من الزملاء والإدارة له دور بارز في تعزيز وتوطيد دوره الإيجابيّ بامتياز. إنّ الاستثمار في صحّة المعلّمين النفسيّة هو استثمار في نجاح الطلّاب والمجتمع التعليميّ ككلّ.
في النهاية، يتّضح لنا أنّ العلاقة بين الطرفين ليست مجرد تبادل معلومات إنّما تفاعل بينهما، وهي من العناصر الأساسيّة التي تؤثّر في جودة التعليم. ولا بدّ أنّ يتحقّق الاهتمام به من جميع الجوانب، لنكون قادرين على تقديم تعليم متميّز. ولا بدّ أنّ نبدي اهتمامًا برفاهيّة المعلّم لتأثيرها في المعلّم والطالب في آنّ معًا. وذلك يفتحُ أمامنا أفقًا جديدًا لتحقيق المزيد من الإبداع والتطوّر.