مُقدّمة
لا شك أن جائحة كورونا شكّلت قفزة نوعيّة في عمليّة التعلّم، كما أحدثت تغيّرات عند كلّ معلّم ومتعلّم، إذ أصبح كلاهما ينظران إلى التعلّم من منظور مختلف. ولا يمكننا غضّ البصر عن إيجابيّات هذه المرحلة، رغم كل الظروف التي تمرُّ بها الدول العربيّة بشكلٍ عامّ ولبنان بشكلٍ خاصّ، هذه المرحلة التي ساهمت بالكشف عن مواطن الضعف في صيرورة التعليم ومناهجه.
عن تعليم قبل كورونا
لم أعتقد يومًا أن كلّ ما تعلّمته سابقًا وما اكتسبتهُ خلال الفترة التعليميّة سيكون مختلفًا كليًّا عمّا نمرّ به اليوم. وفي حين اتّجهَ المعلّمون من حولي إلى كيفيّة تحرير الطالب من صفّهِ وقوانينه وتطويره على الصعيد الشخصيّ والنفسيّ والاجتماعيّ، كنتُ أغلب ما أسعى إليه هو الوصول إلى مفهوم المعلّم الفعّال والنشط، وتطبيق استراتيجيّاته الصفّيّة لما تعانيه مادّة الفيزياء من حُكمٍ مسبقٍ من قِبل الطالب بأنها عبارة عن كمّيّة من المفاهيم والتحاليل المعقّدة، وغالبًا ما كنت أعتمد مبدأ التجارب الصفّيّة بالوسائل المتاحة أو العصف الذهنيّ أو استطراد صغير إلى ما وصل إليه العلم، ذلك لشدّ نظر الطالب إلى المادّة وربطها بحياتهِ الواقعيّة اليوميّة، وأعتقدُ أنّني نجحتُ إلى حدٍّ ما في هذا الأمر.
عن رحلتي في التعليم الإلكترونيّ
في ظلّ جائحة كورونا بدأت رحلتي التعليميّة من جديد، وكلّ ما كنت أُفكر بهِ ويُسيطر على تفكيري هو كيفيّة إيصال المعلومات لجميع التلاميذ دون استثناء، خصوصًا في ظلّ الظروف الراهنة الصعبة من الناحية الاقتصاديّة، ورداءة اتصّال الإنترنت وغياب الأجهزة الإلكترونيّة، وغيرها من المشاكل.
وانطلاقًا من كون الطالب محور العمليّة التعليميّة والدائرة الأساس التي تتمحور حولها المواضيع التربويّة، اتّخذت إدارة المدرسة التي أعمل ضمنها عدّة قرارات، كان أهمّها: إنشاء منصّة إلكترونيّة تسمح بدخول الطالب إليها في الوقت الذي يريد؛ أي حين تتيح لهُ إمكاناته، وهو ما يُعرف بالتعليم غير المتزامن، انطلاقًا من أخذ الظروف الاقتصاديّة للعائلات بعين الاعتبار، فكما نعلم، تملك بعض الأُسر هاتفًا واحدًا أو جهازًا إلكترونيًّا واحدًا تتشاركهُ جميع الأُسرة.
تسمح هذه المنصّة للمعلّم بإدخال فيديوهات وصور وملفّات بجميع الصّيغ، أهمّها PDF وWord، كما تُمكّن الطالب في البقاء على تواصلٍ باستمرار مع المعلّم عبر إرسال رسائل صوتيّة أو كتابيّة. ومن هُنا، بدأتُ مهمّتي البحثيّة في إنشاء فيديو تعليميّ سهل مُبسّط الشرح قليل المدّة الزمنيّة لجذب الانتباه ولإبعاد الرتابة والملل، لذلك كان لا بد من استخدام برنامج Power Point، وتطبيق Screen Recorder على الهاتف، أو Screencastify، ذلك لإنشاء الفيديو بمدّة لا تتعدّى ثلاث دقائق، بحيث يحملُ هدفًا واحدًا من الدّرس، إضافةً إلى اعتمادي مبدأ مختلفًا وأدوات مختلفة في الشَّرح في كلّ فيديو إما من خلال Stimulation عبر add-ins أو الصُّور المتحرّكة gifs، أو الاستعانة بفيديو عبر يوتيوب أو رابط من منصّات مختلفة، مثل منصّة طبشورة.
وبعدَ مرور مدّة على التعليم غير المتزامن، وتأقلم الطلبة مع النوع الجديد من التعليم الإلكترونيّ، بدأنا بإضافة التعليم المتزامن عبر تطبيق زووم لسهولة الاستعمال ولميزة Breakout room، والتي أضفت نوعًا من الحيويّة على الحصّة التعليميّة، وشوق التلاميذ لمعرفة نوع عملهم الجماعيّ في كلّ حصّة. ومن هُنا بدأتُ في النشاطات وبدأتْ معها مُتعة التعليم عن بعد.
اقترحت على طلبة الصّفّ السابع الأساسيّ في درس فيزياء عن Masse Volumique، القيام بتجربة صغيرة في المنزل ضمن المواد المتاحة، وتسجيل فيديو وإرساله على Whatsapp. في الحقيقة لم أتوقّع هذا الكمّ من الإبداع والمشاركة، لقد بحثوا عن تطبيق لتسجيل الفيديو وإدخال الكتابة عليهِ، ثُمّ نشرته المدرسة على منصّاتها المُختلفة، ومنهم أيضًا من قرّر تلخيص الدرس بعد انتهائه وتقييمه بأسلوبهم ونشره ومُشاركته مع رفاقهم على المنصّة. هذا السّلوك الجماعيّ قد شجّعَ طالبة لديها مُشكلة صحّيّة كانت متردّدة في التّسجيل والمُشاركة، وبعد التواصل معها، شاركت في تسجيل الفيديو وأرسلتهُ، وشعرتُ بتغيّر في مفهومها للمادّة، كما أبدت رغبة رائعة في المُتابعة والاستفسار الدّائمين عن مُختَلف المواضيع، هذا النّشاط رفع مُعدّلها النهائيّ كنتيجةٍ لفهمها الجيّد للمادّة.
إنّ إيجابيّات هذه المرحلة غير محدودة، خصوصًا إذ تمّ استثمار الطاقة في مكانها الصّحيح، ومنح التحفيز للطلبة الذين يحتاجونهُ، وأيضًا الدخول في تجارب ومغامرات جديدة، وقد تعلّمتُ من هذه التجربة أنّ الإبداع لا حدودَ لهُ، نحتاجُ فقط أن نكتشفهُ.
صعوبات وتحدّيات وحلول
أعلمُ أنّ التعليم عن بُعد ليس سهلًا، وأن مفهومه مُختلفٌ كلّيًّا عن التعليم الحضوريّ، وقد شكّل تحدّيًا كبيرًا وصعوبة مزدوجة بسبب وجود صعوبات عدّة تُعاني منها مختلف المؤسّسات التعليميّة، أذكرُ من هذه الصعوبات:
1. المناهج ذات الطابع التقليديّ غير المواكب للتطوّر الحاصل، والذي يفتقر لمبدأ البحث العلميّ وإنشاء الطالب على مبدأ التعلّم الذاتيّ قبل تلقّي المعلومة من المعلّم، ما ساهم بتأقلم أغلب الطلبة على التلقين والحفظ المرهق للطالب، والذي يؤثّر على الخيال فيحدّهُ، وعلى التفكّر في المواضيع العلميّة، ما يؤدّي إلى ضعف في البنية الشخصيّة للمُتعلّم وضعف في الاعتماد على نفسهِ في إنجاز الوظيفة المطلوبة أو التقييم المطلوب، ذلك وفقًا لما وجدناهُ في عمليّة التقييم عن بُعد.
2. المشاكل الاقتصاديّة والإنترنت ساهمت في عرقلة جماليّة هذه المرحلة والاستفادة القصوى منها، والتي وضعت المعلّمين والمتعلّمين تحت ضغط نفسيّ أثّر بشكلٍ مباشرٍ على الروتين اليوميّ لكليهما.
3. الوقت، وهو السباق الأساسيّ في هذه المرحلة لما فرضتهُ من ضغوط على المُعلّم والمتعلّم لعدّة أسباب، منها: غياب التدريب للمُعلّمين على كيفيّة التكيُّف من جهة وإعطاء أفضل ما عندهم من جهة أُخرى، فكانوا في سباق مستمرّ لإيجاد أفضل طرق لتحسين عمليّة التدريس، ما أثّر بشكلٍ سلبيّ على حياة المُعلّم والطالب الاجتماعيّة والأُسريّة، فكلاهما في تخبّط مُستمرّ لما تفرض هذه المرحلة من صعوبات تخطّي قيود معيّنة، وصعوبة إيجاد الأدوات المناسبة لتخطّي المرحلة.
4. إهمال الأسرة لأبنائها في ظلّ الانشغال في حياتهم العمليّة أو عدم قدرتهم على التأقلم مع الواقع التكنولوجيّ الجديد المفروض.
5. غياب عمليّة التقييم، وهي إحدى أساسيّات هذه المرحلة ومرتبطة بالفكرة السابقة، فوجود الأهل خلال هذه المرحلة ضروريٌّ لتثبيت فكرة التأقلم والمراقبة الذاتيّة، ومن هُنا تبرز أهمّيّة تقييم النشاطات والتقييم التكوينيّ من أجل مساعدة أطراف العمليّة التعليميّة لتخطّي مشاكل وصعوبات، وكذلك لتعزيز وتشجيع المُعلّم الذي عانى بشكلٍ أو بآخر في هذه المرحلة.
أعي تمامًا أن لكلّ مشكلة حلًّا، ولو بالحدّ الأدنى، ولكن في هذا المقام، ومن باب مُشاركة التجربة، سأقوم بتعداد ما واجهتهُ من صعوبات وتحدّيات والحلول التي انبثقت منها خلال عمليّة بحثي:
1. بالنّسبة للضغط النفسيّ في تنظيم عمليّة التعلّم، كان لإدارة المدرسة دور بارز في توجيه الطرفين، المُعلّم والمتعلّم، وتنوير أفكارهم وضبط أوقاتهم، وكلّ ذلك كان اعتمادًا على نظامها الإداريّ وعمليتيّ المراقبة والتقييم. من جهةٍ أُخرى، كان التلاميذ بمثابة مشجعين أساسيّين للمُعلّم، وقد لمستُ هذا عند إصابتي بفيروس كورونا، إذ كانوا هم من دفعوني لاستكمال عمليّة التّعلّم، وقاموا بتحسين صحّتي النفسيّة عبر تشجيعهم لي.
2. تبادل الأفكار بين المعلّمين في الهيئة التعليميّة يوفّر الكثير من الجهد والتدقيق والبحث.
3. أهمّيّة وجود الأهل في طرفٍ محاذٍ للمُعلّم ومتابعة أبنائهم لإتمام عمليّة التعلّم على أكمل وجه، وتشجيع أبنائهم في المتابعة لتحييد الركود وما تفرضه هذه المرحلة من تحرّر من النظام التي تفرّضه المدرسة، لذا أطلبُ من طلّابي دائمًا تسجيل برامجهم على ورقة وتعليقها على حائط الغرفة، بما يشمل على سبيل المثال: تبديل ثياب النوم قبل ساعة من بدء الحصّة التعليميّة، وتهيئة جميع الأدوات اللّازمة من كتب ودفاتر وأقلام، كما أنني أحثُّ الأهل على الجلوس إلى جانب الطالب لتأمين الجوّ المناسب والمتلائم ومراقبة المواقع المطلوبة للبحث في موضوع ما على الإنترنت.
4. أُخصّص دائمًا في الحصّة المتزامنة ما يقارب عشر دقائق للاستماع لمشاكل التلاميذ، وما الذي يعترضهم خلال عمليّة الفهم وماذا يريدون أن يفعلوا من نشاطات، وأحاول إيجاد حلول مشتركة، الاستماع هو خير بوصلة اعتمدتُ عليها في عمليتيّ التطوير والتقييم.
5. أمّا بالنسبة للتقييم التكوينيّ فاعتمدت موقع testportal.net، لقدرته على مواكبة التقييم الحضوريّ نوعًا ما في تحديد الوقت وتنويع الاسئلة ومراقبة التلاميذ عند التنقّل من سؤال إلى آخر والعديد من الخصائص الأُخرى المتوفّرة فيهِ.
الخلاصة
على المُعلّم أن يكون الجندي المجهول والمبادر لتجميع جميع أدواته التي باتت حاجة ملحّة وجسرًا لعبور أهدافه ليصبح معلّمًا فعّالًا متمرسًا ذاهبًا بإصرار لإنجاح مَهمّته، ولصدّ جميع العوائق ولإنشاء بيئة إلكترونيّة ناجحة تُمكّنه من قيادة صفّه الافتراضيّ والتحكّم في المواقف التعليميّة وبناء جيلٍ قادرٍ على استخدام التكنولوجيا بالحدّ الأدنى.