في قطاع غزّة، حيث تلقي ظلال الحرب ثقلها على الحياة اليوميّة، تبرز قصّة نضال لا تقل أهمّيّة عن النضال من أجل البقاء والتمسّك بالأرض والحقّ: النضال من أجل التعليم. لأكثر من نصف عام، يعيش أهلنا في قطاع غزّة تحت وطأة حرب التطهير العرقيّ التي يشنّها الاحتلال الاسرائيليّ ضدّ الوجود الفلسطينيّ؛ الحرب التي جعلت البحث عن رغيف خبز واحد يتقاسمه جميع أفراد العائلة، والسير إلى جانب عمارة سكنيّة مدمّرة على رؤوس ساكنيها الذين ما زالوا تحت الأنقاض منذ شهور، أمورًا اعتياديّة وروتين حياة يوميّ. في هذا السياق، قد يبدو التعليم في آخر سلم الأولويات.
بعد مرور أقلّ من شهر فقط على بداية الحرب، كانت الغارات الجوّيّة قد استهدفت ما يزيد عن نصف المدارس الحكوميّة و17% من مدارس وكالة الغوث (الأونروا). أمّا المدارس المتبقّية فلم تعد مرافق تعليميّة، بل مراكز إيواء شديدة الاكتظاظ، يلجأ إليها مئات آلاف النازحين من أصل 1.7 مليون نازح داخل قطاع غزّة. حتّى المقاعد الدراسيّة تحوّلت إلى حطب يستخدمه الأهالي للطهو بسبب نقص الموارد والحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال.
رغم هذه الظروف، لم يفقد الأهالي والمعلّمون الأمل في مواصلة العمليّة التعليميّة. تقول إحدى الأمهات من مدينة دير البلح "بدأت ألاحظ أعراض الصدمة على ابنتي البالغة من العمر 4 سنوات، فلجأت إلى تحضير أنشطة ترفيهيّة، مثل الرسم وألعاب حركيّة وتنشيطيّة وأنشطة تعليميّة، مثل حفظ سور قصيرة من القرآن الكريم، وأناشيد، والحروف الأبجديّة قراءة وكتابة. وفي مدينة رفح في قطاع غزّة، أنشأ متطوّعون خيامًا وحلقات قرآنيّة لتحفيظ القرآن الكريم وتعليمه داخل مخيّمات النازحين ومراكز الإيواء.
انطلاقًا من أنّ التعليم ليس فقط حقّ أساسيّ لكلّ طفل، إنّما ركيزة أساسيّة للأمل والشفاء النفسيّ في أوقات الحرب، تأسّست في مدينة رفح مبادرة طموحة تهدف إلى تفعيل العمل التطوعيّ وتنظيمه في مجال تعليم الأطفال النازحين في قطاع غزّة. "مبادرة طيور السلام التعليميّة" يقودها الكاتب والروائيّ الفلسطينيّ عبد الجبّار عدوان، وينفّذها متطوّعون أغلبهم من النساء، وتخدم مئات الطلّاب في مدينة رفح وخانيونس والقرارة ودير البلح وجباليا، منذ تأسيسها في شهر شباط/ فبراير 2024.
يقول عدوان "مبادرتنا ليست بديلًا عن أيّ جهة تعليميّة، ويمكن للآخرين تقليدها لتوسيع التعليم الشعبيّ التطوعيّ، وخدمة الصغار نفسيًّا وتعليميًّا وعودة الروتين والنظام لحياتهم". يتكفّل عدوان بجميع التكاليف المادّيّة التي تدعم جهود المبادرة، ويؤكّد على أنّها مبادرة تطوعيّة بالكامل، لا تقبل التبرّعات النقديّة ولا تدفع أجورًا.
عندما بدأت "مبادرة طيور السلام التعليمية"، واجهت تحدّيات جمّة، بدءًا من الإقبال الكبير على التطوّع، وطلبات الأهالي المتزايدة لافتتاح فصول دراسيّة جديدة. ونظرًا إلى الوضع الأمنيّ الخطير، وعدم قدرة المرافق التعليميّة الرسميّة استضافة الفصول بسبب اكتظاظها بالنازحين، كان التحدّي الأكبر إيجاد أماكن مناسبة لتدريس الطلّاب، وتوفير القرطاسيّة اللازمة. في ظلّ الدمار الشامل ونقص الموارد، اضطرت المبادرة إلى التدريس في أماكن مفتوحة، كالأسطح والمصلّيات وحتّى سلالم العمارات السكنيّة، مع التركيز على تقليل عدد الطلّاب في كلّ فصل لتسهيل عمليّة التعليم وضمان سلامتهم. بالنسبة إلى القرطاسيّة، تمّ الاعتماد على جمع ما هو متوفّر من المكتبات، وشراء المزيد من مدن القطاع، مع التأكيد على توزيعها بشكل عادل بين الطلّاب في مختلف المواقع.
تتراوح أعمار الطلبة ما بين 6 إلى 12 سنة، وتضمّ بعض الفصول 10 طلّاب، وأكبرها يضمّ 150 طالبًا، يدرّسون في فترات مختلفة. بعض الفصول تضمّ نازحين من مناطق مختلفة كمدينة غزّة ورفح ومخيّمات المنطقة الوسطى، وينتمون إلى خلفيّات اجتماعيّة متنوّعة. وعلى الرغم من هذه الاختلافات والظروف الأمنيّة والمعيشيّة القاهرة، تمكّن الأطفال من التناغم بشكل مثاليّ، وبناء علاقات ودّيّة، وغابت أيّ نزاعات بينهم طوال فترة المبادرة التي امتدّت على شهرين. هذه الظاهرة لا تعدّ فقط دليلًا على نجاح المبادرة في خلق بيئة داعمة لنمو الأطفال اجتماعيًّا، بل تعكس أيضًا الأمل في استمراريّة هذه العلاقات وتطوّرها إلى صداقات مستدامة في المستقبل.
يتعلّم الطلّاب في الفصول التابعة للمبادرة المهارات الأساسيّة في اللغة العربيّة والحساب والعلوم واللغة الإنجليزيّة. وتقوم المتطوّعات في المبادرة بتنفيذ أنشطة ترفيهيّة، وتقديم الدعم النفسيّ للأطفال. تنفّذ المتطوّعات تمارين تنشيطيّة وحركيّة بهدف تفريغ الضغوطات والتقليل من القلق والتوتّر. كما يرصدن في سجلّات أسماء الطلاب وأعمارهم، ويتابعن الحضور والغياب وتسجيل الملاحظات عن كلّ طالب. كما تضمّ المبادرة اختصاصيّون يتابعون هذه الجهود التطوعيّة، ويقدّمون الدعم للفرق المشاركة.
هذه المبادرة كشفت عن الروح النبيلة للنساء في المجتمع، واللواتي تجاوزن الاهتمام بالاحتياجات الأساسيّة لأسرهنّ، ليسهمن في بناء مستقبل الأطفال من دون انتظار أيّ مقابل. يقول عدوان " أنا شخصيًّا منبهر، وبالكاد أتمالك مشاعري كلّما تذكرت أدائهنّ، وكلّما شاهدت صور صغارنا في الفصول: نظام ونظافة والتزام وإقبال على العلم. هذا الجيل سيكون مختلفًا ويستحقّ منّا التفاني لخدمته بكلّ ما نملك من طاقات ومعرفة ومال وتضحيات".
تعتبر بدريّة حمودة، إحدى المتطوّعات في المبادرة في مدينة دير البلح، أنّ "مبادرة طيور السلام التعليميّة" استجابة مبتكرة لتحدّيات الحرب التي أثّرت على التعليم في غزّة، وذلك في ظلّ تركيز العالم والمساعدات الإنسانيّة بشكل أساسيّ، على توفير الغذاء كاستجابة لسياسات الحصار والتجويع التي يفرضها الاحتلال الاسرائيليّ. تقول بدريّة: "هذا ما يريده العدو، إرغام الشعب الفلسطينيّ على تناسي حقّه في التعليم ، لذلك هذه الفكرة كانت تنبيهًا لطلّابنا وأهاليهم بحقوقهم، ولا سيّما الأطفال في المرحلة الابتدائيّة الأكثر تضرّرًا". من خلال التأكيد على هذا الحقّ، تحدّت المبادرة محاولات الاحتلال لتحويل تركيز الشعب الفلسطيني بعيدًا عن التعليم، معلنة عن أهمّيّة استمراريّة التعليم على الرغم من الظروف الصعبة.
ومع كونها في بداياتها، تبرز "مبادرة طيور السلام التعليميّة" مثالًا حيًّا على قوّة الإرادة والأمل الذي يمكن أن ينبثق من قلب الأزمات. من خلال جهودها الشجاعة والمتفانية، أظهرت هذه المبادرة أنّه حتّى في أصعب الأوقات، يمكن للتعليم أن يسود كقوّة تحويليّة تعيد بناء الروح المعنويّة، وتزرع بذور المستقبل الأفضل لأطفال غزّة. الأمل الذي يحمله هؤلاء الأطفال والمتطوّعون يعد بأنّ جيلًا جديدًا من القادة والمبدعين والمثقّفين يتشكّل الآن في ورش العمل والفصول الدراسيّة المؤقتة التي أنشأتها المبادرة. هؤلاء الأطفال، الذين يتعلّمون اليوم في ظروف استثنائيّة، شعلةُ الأمل التي تضيء الطريق نحو غد أكثر إشراقًا وسلامًا.
تحمل "مبادرة طيور السلام التعليميّة" رسالة قويّة إلى العالم أجمع، مفادها أنّ الرغبة في التعلّم والنمو لا يمكن أن تخمد بسهولة، حتّى في وجه الصعاب الجسام. إنّها تشهد على الصمود الفلسطينيّ، وتؤكّد على أنّ التعليم يمثّل ركيزة أساسيّة للمقاومة والبقاء، وهو حقّ لا يمكن التنازل عنه أو تجاهله.
من خلال دعم هذه المبادرات وتقدير جهودهم، يمكننا جميعًا المساهمة في بناء مستقبل أفضل لأطفال غزّة، ولكلّ طفل يسعى إلى التعلّم في ظروف استثنائيّة. يقول عدوان "نستعد الآن لافتتاح فصول في النصيرات وغيرها من المناطق. لدينا طلبات في أماكن عديدة، وما يعيقنا هو توفير المكان الملائم؛ فلدينا أكثر من 300 متطوعة في أماكن متعدّدة ينتظرن فرصة إقامة فصل دراسيّ للمساهمة في تعليم الصغار".
بهذه الروح، تواصل "طيور السلام" رحلتها، معلنةً أنّ التعليم في غزّة لم ولن يكون في آخر سلّم الأولويات، بل هو الطريق الوحيد لبناء مستقبل الأجيال القادمة، مستقبل يعيد كتابة قصّة غزّة، من حكاية الألم والدمار إلى أسطورة الصمود والأمل.