عايش الأطفال والطلبة الفلسطينيّون في قطاع غزّة، حالة من الذهول الناتج عن حجم الصدمة النفسيّة التي تعرّضوا إليها، والتي لم يتخيّلها عقل؛ إذ فاقت أبجديّات الباراسيكولوجي، والساديّة المضطربة، ولم تكتبها سيناريوهات أفلام الرعب. وبالسرد التتابعيّ لتاريخ الأزمات النفسيّة وحالات الطوارئ التي عايشها الطلبة الفلسطينيّون، نجد أن أعمار الطلبة الفلسطينيّين الحاليّين في أعلى مراحل السلم التعليميّ خلال هذه الحرب، هي 12 سنة، أي أنهم مواليد سنة 2006. وبمقاربة زمنيّة لهذا الأمر، فإنّ هذا الجيل من الأطفال والطلبة الفلسطينيّين قد فتحوا أعيُنهم على الأحداث الدمويّة للانقسام الفلسطينيّ سنة 2007، ثم اندلاع حرب 2008، تلتها حرب 2012، مرورًا بحرب 2014، ومعايشةً لحرب 2021، وما تخلّل تلك الفترات من جولات تصعيد لم تخلُ من مخاطر طالت الجميع، وصولًا إلى الحرب المسعورة، وجرائم الإبادة الجماعيّة، والتطهير العرقيّ، والتهجير التي يشاهدها الطلبة والأطفال اليوم، ويعيشوا الآمَها ومآسيها. وهذا يدلّل على أن ذاكرة الطالب الفلسطينيّ مُثقلة بالألم النفسيّ، ومشبعة بالأحداث القاهرة التي تجاوزت حجم المناعة والصلابة النفسيّة، وحوّلت مشاعرهم إلى فزع وخوف مستمرّيْن.
أرواح ممزّقة وحماية في مهبّ الريح!
استحضرت الأحداث المأساويّة، والتي يراها ويعيشُها الطلبة الفلسطينيّون كلّ لحظة في غزّة، جدليّة الحقّ والقوّة. الحقّ الذي يأمله وينشده الطالب الفلسطينيّ، والقوّة التي يصعد على متنها المُهيمن بغطرسته الساديّة لفرض سيطرته، عبر إخضاع الوعي بتزييفه والتحكّم في مساراته، وتحويل اتّجاهاته. وما تزال الحرب على غزّة قائمة بكلّ تفاصيلها، من عنف ممنهج يُمارس من آلة الحرب الإسرائيليّة بحقّ الأطفال والطلبة الفلسطينيّين، والنزوح، ونقص الوصول إلى الخدمات الأساسيّة، ما يعيق حياة الطلبة في غزّة من جوانبها كافّة. وهو ما يعني تمزّق أرواح الطلبة، المترعة بالجروح النفسيّة، والتي لن تمحوها الأيّام في ظلّ حماية كاذبة لكينونة الطالب الفلسطينيّ، حيث كلّ من يسكن قطاع غزّة معرّض للموت في أيّ لحظة، فالخوف قائم وما زال يدقّ في قلوب الجميع.
اضطرابات نفسيّة تفوق المألوف!
بإشارات أوليّة من الميدان، وحسب إفادات المستجيبين إلى التدخّلات من مقدّمي الإسعافات النفسيّة الأوليّة، وخدمات الدعم النفسيّ في مراكز الإيواء، وشهادات الأمّهات المصاحبات لأطفالهنّ، أفادوا جميعًا بأنّ الطلبة والأطفال الفلسطينيّين الذين يعيشون تحت القصف والحصار ومحاولات النجاة من الموت، طوّروا أعراضًا نفسيّة خطيرة نتيجة هذه الحرب. تمثّلت هذه الأعراض في انتشار الاضطرابات النفسيّة والسلوكيّة الناتجة عن الأحداث الصادمة، والخبرات المؤلمة، وردود أفعال قاهرة، ما أدّى إلى ارتفاع مستويات المشاكل الصحّيّة والنفسيّة (السيكوسوماتيّة)، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مثل تكرار ذكريات الصدمة والكوابيس المزعجة، وحالات الهلع، والتجنّب، وصعوبة استحضار المشاعر الإيجابيّة، والانتباه والحذر الزائد، والاضطرابات الانفعاليّة، وفقدان السيطرة على المشاعر، ومشاكل النوم والأكل، والإفراط في التفكير التشاؤميّ، ونوبات البكاء، وفقدان حالة الشغف والاستمتاع، والفوبيا الصعبة، لا سيّما فوبيا الليل والظلام، والتعلّق بالوالدين أو المقرّبين بحثًا عن الأمان.
ومن المتوقّع أن يُضيف الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات النفسيّة (DSM)، وهو المرجع القياسيّ للجمعيّة الأمريكيّة للأطباء النفسيّين، بعض الاضطرابات النفسيّة الناتجة عن الحرب، والتي ستكون خاصّة بغزة فقط لهول ما ستكشف عنه الأحداث الصادمة هُنا.
حواس مضّطربة على الدوام!
لا تمرّ لحظة واحدة على الطلبة والأطفال الفلسطينيّين في قطاع من النازحين، في مراكز الإيواء أو الشوارع، إلّا وتجدهم في حالة ترقّب دائم وحَذر مستمرّين، فعيونهم ترقُب السماء خشية طائرات العدو وما تُلقيه عليهم من صواريخ وقنابل لا تحمل إلّا رسائل الموت فقط أو الدمار! وأذانهم لا تسمع إلّا صوت أزيز الصواريخ وطائرات الاستطلاع وصرخات المفقودين وآهات الجرحى، وأطرافهم ترتجف من الخوف والمصير المجهول، وأفواههم جفّت لشدّة عطشهم لفقدان المياه أو ما يسدّ حاجتهم.
إذًا، فالطالب والطفل الفلسطينيّ لم يعُد كبقيّة أطفال العالم، والذين تنجذب حواسهم لأصوات الطبيعة المفعمة بالحياة والأمل، بل بات يكره حتّى نداءات الطبيعة، فكلّ طائر في السماء يتخيّله طائرة للموت، وكلّ صوت ينبّه بقدوم الشتاء من رعدٍ وبرقٍ يعتقده صاروخ متّجه نحوه أو في محيطه. باتت حواسّ أطفالنا مضّطربة على الدوام لارتباطها بإحداثيّات الألم، والقهر، والخوف، والبؤس، والموت...
الطلبة الفلسطينيّون في عين العاصفة!
بقراءة عابرة للزمن، تُشير الوقائع على الأرض بأن غالبيّة الطلبة الفلسطينيّين كانت لهم تجربة التعرّض إلى حوادث سبّبت لهم صدمة في حياتهم جرّاء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المختلفة. إن قساوة الألم النفسيّ الذي يعيشه الطلبة الفلسطينيّون ما تزال قائمة ومستمرّة، نتيجة تواجدهم في دائرة الحدث بصورة مباشرة هم وذويهم، لأنّهم يعيشون في عين العاصفة، حيث ما يقارب من (600) ألف طالب فلسطينيّ، لن نقول فقدوا حقّهم في التعليم، بل في الوجود نتيجة لاستهدافهم كلّ لحظة. وطلبتُنا وأطفالنا اليوم موزّعين ما بين القتل، أو مفقود تحت ركام منزله، أو نازح في مراكز الإيواء، أو جريح بإعاقة دائمة.
الهشاشة النفسيّة العابرة للأجيال!
أحدثت الحرب الحاليّة وما سبقها من حروب، حالة من الهشاشة النفسيّة كسرت من قوّة المناعة النفسيّة لدى الطلبة الفلسطينيّين ومتانتها، نتيجة لضعف القدرة على التحمّل من هول الكوارث التي عايشوها كصدمة أوليّة وليست ثانويّة بكلّ تفاصيلها. أدّى ذلك إلى ضعف قوّتهم وتدهور صحّتهم النفسيّة بسبب التعرّض طويل الأمد إلى الحروب وجولات التصعيد المتكرّرة وحالة عدم الاستقرار، والشعور بالطمأنينة والأمان النفسيّ، فباتت البيئة النفسيّة لهؤلاء الأطفال غير آمنة، ويشوبها الشكّ والحذر الدائمين. كما أنّ الحالة العاطفيّة للطلبة الفلسطينيّين، ونتيجة التعرّض إلى أحداث مؤلمة، باتت تواجه تحديدات كبرى جعلت من الصعوبة بمكان إعادتها إلى حالة التوازن الطبيعيّ. وهو ما يعني أنّ خطر تدهور صحّتهم النفسيّة سيبقى قائمًا على المدى البعيد، وأنّ الآثار النفسيّة للحرب ستبقى جاثمة على نفوس الطلبة، مُستنزفة طاقتهم النفسيّة نتيجة ذكرياتها المؤلمة، سواءٌ في ذاكرة الوعي المُلاحظ، أو في قاع الذكريات المدفونة في أعماق اللاشعور، لأنّ ذاكرة الطفل الفلسطينيّ العاطفيّة فيها ندبات وجروح عميقة على الدوام.
الهويّة والمكان والكينونة!
ينتاب الطلبة شعورًا ممزوجًا بالقهر نتيجة سؤال الوجود المتعلّق بالكينونة والذات، والهويّة والمكان، بصياغةٍ مفادُها لماذا نحن بالذات؟ أوجد هذا السؤال افتراضات عبثيّة في الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة للطلبة، وإجابات ليست بالقطعيّة، وهو ما يعني شعورًا بالذنب أحيانًا، واليأس أحيانًا أخرى، وزعزعة معتقداتنا في هذا العالم بكل سياقاته وقيمه المختلفة. وكذلك، البحث عن الذات التائهة التي يسعى الفلسطينيّ إلى توكيدها، عبر إشباع حاجاتها الإنسانيّة التي تضمّنها هرم ماسلو، والذي على ما يبدو أنّه نظريٌ فقط في حقّ الطفل والطالب الفلسطينيّ، وتطبيقيّ في حقّ بقيّة الأطفال في هذا العالم! وهذا ما يُشعرهم بمزيد من اليأس والاحباط شعورًا ملازمًا للزمن.
التعافي المؤلم والطريق الطويل والأكثر صعوبة!
بادرت العديد من المؤسّسات إجراء تدخّلات نفسيّة سريعة، داخل مراكز الإيواء للطلبة النازحين وذويهم في قطاع غزّة، إلّا أنّ تلك التدخّلات ما زالت متواضعة، وتشبه العمل في حقول الألغام. إنّ مصدر المعاناة والخوف ما يزال قائمًا، والتهديد بالقصف أو القصف المباشر لمراكز الإيواء يحوم حول هؤلاء الأطفال صباح مساء. إضافة إلى شُحّ الإمكانات وصعوبة تنقّل الفرق العاملة في الميدان. وهذا يعني أنّنا أمام طريق طويل لمساعدة الأطفال الفلسطينيّين المتأثّرين بالحرب حتّى يتمكّنوا من الوصول إلى إمكاناتهم الكاملة، والنموّ في مأمن من الأذى، ويتمتّعوا بالصحّة والتعليم. كما أنّ غزّة، والتي أنهكتها الحروب والمآسي المتلاحقة، تعود مرّة أخرى إلى بؤرة الأحداث وعين العاصفة عبر تقارير مخيفة من الميدان وتدعو إلى القلق، وتفيد بأحداث غير مسبوقة وتدهور حادّ وكبير في الصحّة النفسيّة. هذا الوضع يتطلّب تدخّلًا عاجلًا لمواجهة الكارثة المحقّقة، والتي قد تلحق بأجيال بأكملها من كافّة الأطراف، خصوصًا التي تعهّدت بحماية الأطفال وحماية الحقّ في التعليم.
تفاؤل حذر!
في ظلّ مشاهد القتل والدماء والأشلاء والدمار، فإنّ هذه الأمور تؤدّي إلى اضطرابات نفسيّة بالغة، كونها تترك ذكريات صعبة لا تُمحى بسهولة من ذاكرة الطلبة الفلسطينيّين، خصوصًا حال وجود وفاة شخص قريب منهم. وفي هذا الصدد، فإنّ المناعة النفسيّة، والصمود النفسيّ، والرفاه النفسيّ، والدعم النفسيّ الاجتماعيّ، وحُسن الحال، والتعافي الإنسانيّ الآمن، وتجاوز الأزمات، والسلامة النفسيّة كلّها مفردات قد لا تفي بالحاجة من أجل شعور الأطفال في غزّة بالأمان والطمأنينة، أو قد لا تتواجد في مفردات القاموس الحياتيّ لهؤلاء الأطفال، حيث يحتاج الأمر إلى وقت طويل لتجاوز حالة القهر النفسيّ.
المقال يمثل قراءة سيكولوجيّة تأمّليّة أوليّة للباحث في مآلات الحرب وانعكاساتها على الطلبة الفلسطينيّين في غزّة (2023).
سُجّل النصّ مع بودكاست صوت خلال العدوان على غزّة، عام 2024.