سنعود حتمًا!
سنعود حتمًا!
2024/09/11
أسماء رمضان مصطفى | مُعلّمة لُغة إنجليزيّة- فلسطين

استيقظت هذا الصباح وفي أذنَي صوت السلام الوطنيّ، كلمات أغانينا الجميلة: "فدائي يا أرضي يا أرض الجدود". تقفُ طالباتي أمامي منظّمات كعادتهنّ في طابور الصباح، يرتدين الزيّ المدرسيّ؛ الجينز أو الجلباب كحليّ اللون، تغطي رؤوسهنّ شالة ناصعة البياض كنقاء قلوبهنّ. أناقة بناتي تشرح القلب، وتملؤه أملًا بغدٍ أجمل.

تقف طالباتي بشموخٍ وعزٍّ لا مثيل له، تعتلي وجوههنّ بسماتهنّ النقيّة. تأسرني الوقفة الحازمة أثناء تحيّة العلم، فأنا أقدّس الانتماء لهذا الوطن. بعدها نقف لحظة صمت لنكمل افتتاح يومنا مع طالبات الكشّافة، تُمسك إحداهن "المايكروفون" وتصرخ قائلة: "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار". وتكمل: "القدس..." فتجيب ألف طالبة من مدرستي، مدرسة حليمة السعديّة الأساسيّة للبنات، بصوتٍ واحد موحّد: "لنا... لنا... لنا". أتمشّى بينهنّ في الطابور الصباحيّ، أتوسّط كلّ طالبتين في الممرّ الصغير بينهنّ، لأحيّي بناتي وأتفقد أحوالهنّ منذ بداية اليوم. نستمع إلى الإذاعة المدرسيّة، وننتظم في دخولنا إلى بيتنا الكبير، غرفتنا الصفّيّة، ندخل إلى مقاعدنا.

أدخل خلف بناتي من دون كلامٍ لفترة وجيزة، يمتلئ قلبي حبًّا للحياة عندما أراهنّ يتفقدن بعضهنّ البعض. ابتسامات الصباح الجميلة تملأ الفصل، وتتعالى ضحكات بناتي عندما تنبّه إحداهنّ زميلتها بطريقتهنّ المعتادة: "المعلّمة واقفة... اسكتوا". أحبّ أن أترك لهنّ مجالًا ليعشن هذه اللحظات الجميلة بداية كلّ يوم، بينما تقف إحداهنّ تنظّف السبّورة، وأخرى تُرتّب واجهة الفصل، وغيرها تتمّمُ تنظيف آخر مترٍ مربّع من الفصل، وتذهب لتغسل يدَيها قائلة لي: "ما تبدي يا مس قبل ما آجي". فورًا أردُّ عليها: "حاضر".

تأخذ عيناي جولة تفقديّة على مقاعد الدراسة كلّ صباح:

"أين نور يا بنات؟"

"وأين جارتك يا ندى؟"

"هل عادت هدى من غيابها يوم أمس؟"

"هل تحسّنت صحّة حلا؟" ثمّ نبدأ بسم الله درسنا.

 يأسرني حبّ طالباتي لحصّتي، حصة اللغة الإنجليزيّة، ولطالما اعتقدت أنّهنّ يجدن صعوبة في تعلّمها. كنت دائمًا أقرأ تفاعلهنّ معي في الدرس، وأقرأ حبهنّ لي كما يقرأن حبّي الشديد لهنّ. أحرص كثيرًا على التعامل معهنّ وكأنهنّ ضيفات في بيتي.

أفتح عيني ودمعة القهر والحسرة تخنقني... أنا في خيمة النزوح الثامن!

لم أدخل مدرستي لمدّة عام كامل! فلا البيت كما كان، ولا المدرسة مكانها. تفرّق شملنا. استشهد من طالباتي الكثير، وأصيب أكثر. إحداهنّ راسلتني آخر مرّة منذ شهر، تتلقّى العلاج في الخارج إثر إصابتها الخطيرة التي تعرّضت لها في قصف مجاور لمنزلها.

لا الضحكات تجمعنا، ولا الابتسامات تعلو وجوهنا. ولم نعد نرفع صوت السلام الوطنيّ، ولم نحيّي العلم منذ سنة!

أفقت على خبر قصف عشرين خيمة في منطقة "مواصي" خانيونس، واستشهاد أكثر من أربعين غزّيّ، كما هو الحال في كلّ يوم منذ سنة وحتّى اليوم. في قلبي أردّد ما كانت تقوبه قائدة الكشافة صباح كلّ يوم: "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار".

أكتبُ أنا، أسماء مصطفى، في مخيّم النزوح في النصيرات، الإثنين، التاسع من أيلول/ سبتمبر 2024... في بداية سنة دراسيّة جديدة من دون مدارس في غزّة.

 

* بمناسبة اليوم الدراسيّ الأوّل في عام دراسيّ جديد للعام الثاني على التوالي، منقطعين عن التعليم في غزّة.