اعتقد أنّ الأمر لم يعد كما كان في السّابق عند بزوغ نجم التطبيقات التكنولوجيّة وألعاب الفيديو، وقتها كان الكلّ يتوقّع أن تزول العربيّة الفصحى من الاستخدام اليوميّ، وأن تصبح المفردات المُصاحِبة للتكنولوجيا هي الشائعة في كلام الناس وأصواتهم. أمّا اليوم، فإنّ أهل العربيّة يستفيقون مبادرات وطروحات تنتصر للغتهم، ويدركون معها أن متابعة نشرة الأخبار يتطلّب، في الحدّ الأدنى، امتلاك حصيلة كافية من مفردات الفصحى كي يُفهم المُراد بلا تشويش للمعنى وتحريف للقصد.
ومع ميل فئة من الشّعراء إلى العامّية الدارجة في نظم القصائد ومخاطبة الناس، بتنا على يقين أنّ الذائقة الأدبيّة الذوّاقة لا تجد ضالّتها إلّا في الفصحى، لأنها العامرة بالمفردات التي تنقل الإحساس وتصف الشعور بأدقّ التفاصيل. ولا عجب أن نجد كثيرًا من حسابات مواقع التواصل الاجتماعيّ، تعيد نشر صورة أسماء الحب في اللغة العربيّة أكثر من مرّة من باب الإعجاب بها، وتحديد الشعور الذي يعيشونه مع من يحبّونهم، وتجاوز الأمر ليبحثوا عن شبيه لتلك الصورة عند الحديث عن مفردة الألم أيضًا.
إن هذه العودة إلى الفصحى لها ما يبررها عند تأمّل الواقع اليوميّ للناس، الذي بات خليطًا من لهجات ومفردات لا يملك الإنسان أمامها إلّا العودة إلى لغته الأمّ، وهذا الأمر هو الذي دفع نشطاء مهتمّين باللغة العربيّة الفصحى إلى مطالبة أهل اللغة بالبحث عن مقابل أو ترجمة مناسبة لكلمة GIF؛ على سبيل المثال.
وإذا كان يحلو للبعض ربط الواقع المتردّي للغة العربيّة الفصحى بفشل المشاريع القوميّة للأمّة العربيّة، ومحاولة تعليق تراجع اللغة على السياسة، فإن هذا التبرير لم يعد يجد القبول نفسه عند الشباب العربيّ المتصل اتصالًا وثيقًا بالشبكة العالميّة للمعلومات، فنراه اليوم يبحث عميقًا عن معادلٍ لغويّ لمفردات التكنولوجيا والهندسة والطبّ، كي لا يشعر بغربة لغويّة عند التعبير عن اهتماماته، أو يشعر بانعدام هويّة لغويّة عندما يسأله الآخرون: ما لغتك الأصليّة أو لغتك الأمّ؟
وكما السّياسة والإنترنت على تماسٍّ مباشر بحياة الفرد اليوميّة، وكذلك الدين وأحكامه المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بممارسات الناس ومعاملاتهم، نجد ميل الناس إلى ضرورة امتلاك قدر مناسب من المفردات الفصيحة لفهم الأحكام الصادرة عن المختصّين في المجال الدينيّ، أو المهارة الملائمة لمخاطبتهم، ومحاولة استيعاب المحاضرات والندوات المعروضة بالفصحى الرصينة، وفهم المقصود منها على وجه الدقّة.
هذا جزء من التطوّرات الحاصلة في الميدان اللغويّ التي تؤكّد إلى حدٍّ بعيد أنّ الفصحى هي الملاذ الأخير لابن اللّغة، والتي لا مفرّ من التعامل بها في الحدود الدنيا في مجالات حياتيّة كثيرة، ويبقى سؤال التحدّث بالفصحى من عدمه مفتوحًا على إجابات كثيرة حول بُنية اللغة وسماتها، وتأثيرها في فهم النصوص التي نتعرّض لها بشكلٍ يوميّ.