تعليم القضيّة الفلسطينيّة للمراحل الصغيرة
تعليم القضيّة الفلسطينيّة للمراحل الصغيرة
2025/02/12
حنان عبد الفتاح صيام | معلمة لغة عربية لمرحلة الطفولة المبكرة-فلسطين/قطر

أعيش في دولة قطر، لكنّ قلبي في غزّة، فهي موطني الذي عشت فيه أجمل سنوات عمري، وما تزال عائلتي وذكرياتي هناك. خرجتُ منها قبل عشر سنوات، ولكنّ غزّة تظلُّ معي أينما ذهبت، كما قال عبد الرحمن الداخل:

"أيّها الراكبُ الميمّمُ أرضي
أقرِ من بعضي السلامَ لبعضي
إنّ جسمي، كما علمتَ، بأرضِ
وفؤادي وساكنيه بأرضِ"

 

تُعتبر القضيّة الفلسطينيّة قضيّة محوريّة للعرب، فهي تمسّ كلّ فرد في العالم العربيّ والإسلاميّ، لارتباطها بأرضٍ عربيّة وإسلاميّة ومقدّسات لها مكانة عظيمة في قلوب الجميع. من هُنا، يصبح من الضروريّ معرفة الحدّ الأدنى من المعلومات حول هذه القضيّة، خصوصًا في المراحل التعليميّة المبكرة. ومن هذا المنطلق، تقع مسؤوليّة كبيرة على عاتق المعلّمين داخل الفصول الدراسيّة لنقل الوعي وتعليم الطلّاب عن هذه القضيّة.

هذا السؤال الذي طرحته على نفسي عندما بدأت مهنتي معلّمةً للمراحل المبكرة في المدرسة. كنت مؤمنة بضرورة التوعية بالقضيّة الفلسطينيّة، وعدم الاعتماد على المعلومات التي تصل الطلّاب عن طريق الصدفة أحيانًا، أو منقوصة ومغلوطة أحيانًا أُخرى، لا سيّما في عصر الانفتاح على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وطوفان المعلومات التي تتدفق إلى أدمغتهم ليل نهار. وعزمتُ على القيام بمسؤوليّة تلك الأمانة الوطنيّة، والرسالة الأخلاقيّة السامية في نشر الوعي حول تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، إيمانًا منّي بأنّ تعليم الأجيال مبادئ العدل، ومقاومة الظلم، والسعي نحو الحرّيّة، يساعد في تنشئة جيل مسؤول قادر على التمييز بين الحقّ والباطل، مُدرك لحقوقه وواجباته، يقفُ نصرةً للحقّ، ويتعاطف مع الآخر.

على هذا الطريق، كانت لي خبرات متميّزة ومتنوّعة خلال محاولاتي ربط القضيّة الفلسطينيّة مع مناهج التدريس المتنوّعة. على سبيل المثال، في درسٍ للصفّ الحادي عشر، ضمن مساق التربية الدينيّة في المنهاج القطريّ، ذكر الدرس فلسطينيّي القدس المرابطين حول المسجد الأقصى، في هذا الدرس، استخدمتُ عرضًا للمسجد الأقصى بتقنيّة الأبعاد الثلاثيّة (3D). نالت الفكرة والعرض استحسان الطالبات، حتّى قالت لي إحدى الطالبات إنّها شعرَت كأنّها زارت المسجد الأقصى، وتجوّلت في ساحاته، وكلّ هذا بفضل تسخير التقنيّة في تقريب الفكرة.

 

عند انتقالي إلى مدرسة تعتمد برنامج البكالوريا الدوليّة في المنهج الدراسيّ، وجدتُ البيئة خصبة لربط القضيّة الفلسطينيّة بما يتعلّمه الطلّاب، خصوصًا مع طبيعة البرنامج القائمة على التساؤل والتفكير والبحث. وهنا استطعنا تطبيق عدد من التجارب الرائعة مع الطلّاب، حيث ربطنا وحدات البحث المختلفة بالقضيّة الفلسطينيّة. نتجَت عن ذلك حماسة شديدة غير متوقّعة لدى الطلّاب، وظهرت واضحة في وحدات، مثل وحدة بحث (نتشارك الكوكب)، والتي نتحدثُ فيها عن المجتمعات والثقافات المختلفة. وقد كان لافتًا مدى إعجابهم واستمتاعهم بالتعرّف إلى الثقافة والتراث الفلسطينيّين، ونتج عن ذلك اهتمام زائد وواضح بالتعرّف إلى كلّ المعلومات عن فلسطين. لذلك قمنا بالتوسّع في الوحدة، وبدأنا بالبحث وجمع الصور عن فلسطين، من تقاليد وعادات ومدن وأزياء ومأكولات، وبعض الكلمات من اللهجة الفلسطينيّة مع مرادفها في اللهجة القطريّة، وجرّبنا طعم زيت الزيتون واختبرنا رائحة نبتة "المريميّة" البرّيّة المشهورين في فلسطين. في المحصلة، كانت تجربة مميّزة وغنيّة ومثيرة لجميع حواسهم وعقولهم وقلوبهم. وفي الوقت ذاته، تركت أثرًا إيجابيًّا في نفوسهم تجاه القضيّة الفلسطينيّة.

أثمرت تلك التجارب في زرع الانتماء إلى القضيّة الفلسطينيّة في قلوب الطلّاب، عندما تفاجأت بأحد طلّابي الصغار في مرحلة الروضة إبّان حرب الاحتلال الإسرائيليّ على قطاع غزّة، سنة 2021، يسألني: "مس حنان كيف حالك وكيف حال بلدك فلسطين؟"

وفي سنة 2023، وقد أصبحت أحداث غزة والقضيّة الفلسطينيّة تتصدّر كلّ وسائل الإعلام والأحاديث التي يسمعها الطلّاب في كلّ مكان حولهم. تساءل الطلّاب عن كيفيّة تقديم الدعم والنصرة للقضيّة الفلسطينيّة. واستُثمرت الأجواء المواتية ليعبّر الجميع، معلّمين ومتعلّمين، عن التعاطف والتضامن. وكانت فرصة لاستخدام بعض الفيديوهات والمطبوعات المتنوّعة، والتي تشرح وتتحدّث عن فلسطين، مع وقفات في الإذاعة الصباحيّة للتضامن مع الشعب الفلسطينيّ.

ومع أهمّيّة كلّ هذه النشاطات، يجب الانتباه إلى أنّها قد لا تترك الأثر المرجو في نفوس الطلّاب؛ فهم يحتاجون إلى المزيد حتّى لا يكون تعاطفًا مؤقّتًا بغير فهم عميق للقضيّة الفلسطينيّة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من ربط حقيقيّ يجعل الطلّاب يفكّرون في فلسطين بشكل دائمٍ، بحيث تصبح لهم فكرة راسخة نهايتها يجب أن تكون تحرير فلسطين وزوال الاحتلال. لذلك قمت بربط جميع وحدات البحث في السنة الماضية، بالواقع الذي يسمعه ويشاهده المعلّمون على مدار حياتهم اليوميّة.

كان الربط في مرحلة الصفّ التمهيديّ في وحدة البحث (من نحن)، والتي كانت تتحدّث عن الحواس، وكيف تمكّننا حواسّنا من استكشاف العالم من حولنا. وسلّطنا الضوء على الأشخاص الذين فقدوا بعض الحواس أو الأطراف في فلسطين نتيجة القصف والحرب. وكيف يمكن للطلّاب إظهار التعاطف معهم؟ ومن الجدير بالذكر قيام أحد الطلّاب الصغار بابتكار طريقة لمساعدة الأطفال الذين لا يستطيعون الإبصار، من خلال تركيب سماعة تصف لهم الأماكن التي يذهبون إليها.

أمّا في وحدة البحث (أين نحن في الزمان والمكان)، فأبدع الطلّاب الصغار بشكل ملحوظ، خصوصًا أنّ هذه الوحدة تحدّثت عن البيوت وأشكالها حول العالم. ولأنّني خسرت بيتي في قطاع غزّة، حصلتُ على تعاطف طلّابي الصغار واهتمامهم. وكانت هذه الوحدة هي الوحدة المخصّصة للمعرّض المصغّر لمرحلة الصفّ التمهيديّ، وقاموا ببناء تصاميم رائعة ومبتكرة لحلّ المشكلات التي بُحثَت عن الوضع في فلسطين: فلعدم توفّر الكهرباء، قاموا بوضع ألواح شمسيّة حتّى تمدّ البيت بالطاقة، في محاولة لبناء البيوت التي هدمها العدوان على غزّة. وقد حظيتُ بمخطّط فنّيّ رائع لبيتي من تصميم الطلّاب.

أمّا في وحدة البحث (كيف يعمل العالم؟)، فكنّا نبحث عن مصادر الضوء الطبيعيّة والصناعيّة وكيفيّة الحفاظ على الطاقة، فتحدّثنا عن البلدان التي تفتقر إلى الطاقة الكهربائيّة. وكانت فلسطين من تلك الأماكن، حيث بحث الطلّاب عن بدائل توفّر الكهرباء لبيوت غزّة وفلسطين ومدارسهما.

 

كانت فلسطين حاضرة عند المتعلّمين الصغار، في عقولهم وقلوبهم وتفكيرهم أثناء بحثهم. وتضامنوا بشكل جميل مع فهم كامل للقضيّة، وهذا التعاطف ليس عطفًا مؤقّتًا أو لحظيًّا، إنّما ينبع من أوقات قضاها الطلّاب في التساؤل والبحث و طرح الأفكار والحلول لمحاولة دعم القضيّة الفلسطينيّة.

هكذا حاولت الإجابة عن سؤال كيف يمكن العمل على حضور فلسطين في عمليّة التعلّم لدى الطلّاب في المراحل المبكرة من المدرسة. ومع ذلك، أنا متأكدة من أنّ المدرّسين قادرون على إنتاج أفكار أكثر إبداعًا، وتجارب أغنى، ليتمكّن الطلّاب من اكتساب الوعي الكامل بالقضيّة الفلسطينيّة.