يتناول (فيجوتسكي) في كتابه الثريّ موضوعات لا غنًى عنها للمبدعين والآباء والأمّهات والمربّين. وقد قسّم كتابه إلى ثمانية فصول، ناقش في الفصل الأوّل والثاني قضايا الخيال والإبداع والواقع، والإبداع بحسبه هو كلّ فعل بشريّ يضيف شيئًا جديدًا، بغضّ النظر إذا ما كان شيئًا مادّيًّا أو عاطفيًّا.
يذكر الكتاب النوعين المميّزين للسلوك الإنسانيّ وأنشطتهما، أوّلهما: النشاط الإنتاجيّ الذي يرتبط بالذاكرة، إذ إنّ دماغنا يحتفظ بتجاربنا السابقة، ويسهِّل إعادة إنتاجها، لكن إذا اقتصرت خبرات الشخص على الاحتفاظ بالتجارب السابقة فقط، فإنّه سيكون قادرًا على التكيّف مع الظروف البيئيّة المألوفة فقط، أمّا عند تعرّضه للتغيّرات غير المتوقّعة، فإنّه سيفشل في توليد ردّات فعلٍ تكيّفية ملائمة لها.
أمّا النشاط الثاني فهو: النشاط الاندماجيّ، أو الإبداعي، فعندما أرسم في مخيّلتي الحياة البشريّة بعد مئة عام، أو صراع الإنسان في عصر ما قبل التاريخ، فإنّني أفعل أكثر من مجرّد إعادة إنتاج الانطباعات التي أحدثتها التجربة لديّ فيما مضى، فالحقيقة هي أنّني لم أرَ الماضي البعيد ولا المستقبل نهائيًّا، إلّا إنّني "ما زلت أحتفظ بالفكرة، أو الصورة الخاصّة بي، عمّا كانت عليه الحال سابقًا أو ما ستكون عليه مستقبلًا" (ص 9).
يورد (فيجوتسكي) حكاية صبيّ صغير لا يتجاوز الثلاث سنوات ونصف، رأى رجلًا أعرج يسير في الشارع، فبكى، وقال لأمّه: انظري إلى ذا الرجل المسكين. ثم شرع يحكي لها قصّته قائلًا: "لقد كان الرجل يمتطي حصانًا كبيرًا، ثمّ سقط فوق صخرة كبيرة، وتأذَّت ساقه كثيرًا، وكان لا بدَّ من العثور على دواء ما لتتحسَّن حاله" (ص 13). ومن خلال هذه القصّة، تتّضح لدينا العمليّة الاندماجيّة للمخيّلة، فالطفل يملك عناصر هذه الحالة من تجربة سابقة، ولكنّه دمج هذه العناصر ليُنتج أمرًا جديدًا مبتكرًا. إنّ القدرة على دمج القديم بطرق حديثة هي أساس الإبداع.
يربط (فيجوتسكي) عملية التخيّل بالواقع وفق أربع طرائق. أولاها هي: إنّ ما تبدعه المخيّلة يعتمد دائمًا على عناصر مأخوذة من الواقع، من تجارب الإنسان السابقة، أي إنّه كلّما ازداد ثراء تجربة الإنسان، ازداد ثراء المادّة التي تستطيع المخيّلة الوصول إليها.
ولهذا الأمر تأثيره على التعليم، فإذا أردنا أن نبني أساسًا متينًا لإبداع الطفل، علينا أن نعرّضه للتجارب، فكلّما زاد ما يراه الطفل ويختبره، زادت معرفته واستيعابه، زادت إنتاجيّة فعل المخيّلة لديه.
أما العلاقة الثانية التي تربط الخيال والواقع، فهي موجودة بين "المنتج النهائيّ للمخيّلة وبعض الظواهر الحقيقيّة المعقّدة"(ص 19)، فعندما أكوّن صورةً عن الثورة الفرنسيّة من خلال دراسات المؤرّخين، تكون الصورة نتاجًا للنشاط الإبداعيّ للمخيلة، فمع أنّها لا تعيد إنتاج ما أدركته في تجربتي السابقة، هي تخلق توليفات جديدة من تلك التجربة.
أمّا الصلة الثالثة فهي عاطفيّة، إذ إنّ أشكال الخيال الإبداعيّ تتضمّن عناصر عاطفيّة، أي إنّ لكلّ تركيب للمخيّلة تأثيرًا كبيرًا في مشاعرنا، وحتّى إن لم يتوافق هذا التركيب مع الواقع، تكون المشاعر التي يثيرها حقيقيّة؛ نحن تحرِّكنا وتثيرنا عواطف الشخصيّات الخياليّة، ومصائرها، أفراحها وأتراحها، رغم أنّنا نعرف أنّها ليست أحداثًا حقيقيّةً. يحدث ذلك لأنّ المشاعر التي تتملّكنا، تلك المستقاة من الصور الفنيّة على صفحات الكتب، أو من خشبة المسرح، مشاعر حقيقيّةٌ تمامًا.
والنوع الرابع من العلاقة التي تربط بين المخيّلة والواقع، يكمن جوهرُه في "إمكانيّة أن يمثّل تركيب الخيال شيئًا جديدًا من جهة الجوهر، لم تعهده التجربة الإنسانيّة مطلقًا من قبل" (ص 24)، لكن ما أن يتجسّد خارجيًّا، ويُمنح كينونةً ماديّةً، يظهر على هيئة كيان في العالم الواقعيّ الحقيقيّ، وبهذه الطريقة، تصبح المخيّلة واقعًا. الأجهزة التقنيّة والآلات أمثلةٌ على هذه المخيّلة في صورتها المتجسّدة المتبلورة.
آليّة المخيّلة الإبداعيِّة
في الفصلين الثالث والخامس، يتطرّق المؤلّف إلى المخيّلة الإبداعيّة وآليّة عملها، والمعاناة التي يحسّ بها المبدع ليرى عمله متجسّدًا.
إنّ ما نسميه فعل إبداع هو ذروة في عمليّة ولادة تحدث نتيجةً لعمليّة داخليّة طويلة جدًّا من الحمل والنموّ الجنينيّ. ففي اللحظة الأولى لهذه العمليّة، ثمّة إدراك لما هو خارجيّ وداخليّ، وهذا أساس تجربتنا وخبرتنا. وبذلك فإنّ ما يراه الطفل ويسمعه، يوفّر له ذخيرةً لإبداعه المستقبليّ، إذ هو يراكم موادّ ستساعده في بناء خيالاته، ويعقُب هذ عمليّةٌ معقّدة من إعادة صياغة هذه المادّة. لذلك، يُعَدُّ تفكيك الانطباعات المكتسبة عبر الإدراك، وإعادة ربطها من أهمِّ مكوّنات هذه العمليّة.
مكابدات الإبداع
يهب الإبداع المبدع سعادةً غامرةً، وترتبط بالمعاناة التي بذلت دلالةٌ لا تُنسى لمكابدات الإبداع. ينقل الكاتب عن الروائيّ (دستويفسكي) قوله: "إنّ الإبداع صعب، وإنّ الدافع له لا يتوافق دومًا مع القدرة عليه، وهنا يتولّد أصل الشعور الموجع بالمعاناة الناجمة عن حقيقة أنّ الكلمة لا تمسك بالفكرة (لا تسعها)" (ص 49). وقد أطلق الشعراء على هذه المعاناة اسم "مُكابدات الكلمة".
إن المخيّلة هي المحرك الأساسي للإبداع، وأكدت أبحاث (ريبو) ذلك، يقول: "تتغلغل المخيّلة الإبداعيّة في الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة، في جميع أشكالها المجرّدة والعمليّة، إنّها موجودة في كلّ مكان" (ص 53).
الإبداع الأدبيّ والدراميّ لدى الأطفال
يتناول المؤلّف في الفصول (4، 6، 7، 8) الخيال لدى الأطفال والمراهقين، ويتناول إبداعهم في الرسم والأدب والمسرح.
يُعدّ الرسم الإبداع الأول الذي يمارسه الأطفال في المدرسة، ويكاد يمارس كلّ الأطفال الرسم في السنوات الأولى، فالرسم هو النشاط الإبداعيّ "النموذجيّ لمرحلة الطفولة المبكّرة، خاصّةً في فترة ما قبل المدرسة. يرسم الأطفال أثناء هذه الفترة بحماسة وشغف، وأحيانًا دون تشجيع البالغين. ويمكن لأقلِّ مُحفّزٍ، في بعض الأوقات، أن يكون كافيًا ليدفع طفلًا باتّجاه الرسم" (ص 55).
فالرسم هو هواية الأطفال المفضّلة، لكنّهم عندما يصلون إلى المدرسة، يفتر حبّهم ويضعف اهتمامهم بالرسم، في حين يستمرّ الميل للرسم لدى عدد قليل من الأطفال الأكثر موهبةً، والذين ينتمون إلى ظروف تعليميّة تشجع الرسم، وتعزّز تطوّره في البيت أو المدرسة. واهتمام الأطفال بالرسم نابع من كونه يتيح لهم الفرصة للتعبير بسهولة عمّا يهمّهم في هذه المرحلة. عندما يتخطّى الطفل هذه المرحلة إلى مرحلة جديدة فإنه يتغيّر، وتتغيّر طبيعة إبداعاته. يترك الرسم إلى نوع جديد من الإبداع هو الإبداع اللفظيّ أو الأدبيّ.
تعبير الطفل كتابيًّا عن أفكاره ومشاعره يتأخّر عن قدرته على التعبير عنها شفويًّا. هذا يحدث لأنّ اللغة المكتوبة تكون أصعب، إذ إنّ لها قوانينها الخاصّة التي تختلف عن قوانين التعبير الشفويّ، والطفل يكون في مرحلة لا يتقن فيها هذه القوانين. يكون الخطاب الشفويّ مفهومًا للطفل، وعندما يبدأ بالتحوّل إلى اللغة المكتوبة، "التي تُعدُّ أكثر تجريدًا واعتباطيّةً إلى حدٍّ كبير" (ص 58)، لا يستوعب الطفل ماذا يجب عليه أن يكتب، ولا يملك أي دافع فعليّ للكتابة. يقدّم الروائيّ (تولستوي) رأيه من خلال تجربته في تعليم الإبداع لأطفال الفلّاحين، إذ من أجل تطوير الكتابة الإبداعيّة لدى الأطفال، ليس علينا سوى توفير الحافز والموادّ اللازمة لإبداعهم. ويذكر بعض التقنيّات التي تساعد الأطفال على الإبداع، وهي:
أوّلًا: تقديم أكبر قائمة موضوعات مختارة.
ثانيًا: تقديم أعمال للأطفال يكون مؤلّفيها من الأطفال، ليقرؤوها بوصفها نماذج.
ثالثًا: عدم انتقاد الطفل مطلقًا عند مراجعة كتاباته، لا على الترتيب، ولا وضوح الخطّ، ولا الإملاء، ولا بنية الجمل والمنطق على وجه التحديد.
رابعًا: بما أنّ صعوبة الكتابة الإبداعيّة لا تكمن في الطول أو المضمون، بل هي في القيمة الفنيّة للموضوع، "إذًا فالتسلسل الذي تُعرض فيه الموضوعات يجب أن تحدّده طبيعة الآليّة الكامنة وراء العمل الإبداعيّ، لا الطول ولا المضمون ولا اللغة" (ص 64).
إذًا، مفهوم التعليم الصحيح لا يعني أن يُلقَّن الأطفال، بطريقة مصطنعة، المُثُل والمشاعر والأمزجة التي تكون غريبةً عنهم في كليّتها، بل إنّ التعليم الصحيح يقوم على "إيقاظ ما هو موجود قبلًا في داخل الطفل، ومساعدته على تطويره، وتوجيه هذا التطوير في اتّجاه محدّد" (ص 65).
بالإضافة إلى الإبداع اللفظيّ، تُعدّ الأدرمة من أكثر أشكال الإبداع التي يمارسها الأطفال شيوعًا وانتشارًا؛ الشكل الدراميّ يعبّر بوضوح كامل عن دورة الخيال الكاملة التي تطرّقنا إليها في حديثنا عن الفصل الأول. من خلال الدراما تُجسّد الصورة التي أبدعها الخيال من عناصر الواقع الحقيقيّة واستيعابها، والشكل الدراميّ في حالة الأطفال، هو ما يربط بين الأدرمة واللعب.
المؤلف :ليف فيجوتسكي
ترجمة:هيفاء أبو النادي
منشورات مؤسسة عبد المحسن القطان-رام الله
سنة الطبعة 2017م عدد الصفحات 127