"اطْلبوا العلمَ ولو في الصّين"
قبل زمنٍ غير بعيد كان التعلّم وصقل المهاراتِ مرتبطًا بالسفر والترحال والانتقال بين بلدان المشرق والمغرب، لحمل زاد المعرفة واكتشاف العلوم والدخول لموسوعات الحضارات الأُخرى سواءً بزيارتها والتقاء أعلامها، أو قسرًا بحروب ومحارقَ بمكتباتها كالتي نشبت بقرطاج والإسكندرية أو بغداد والإسكوريال. كما ظهرت المُجتمعات العلميّة تلتمس فكرها التَّنويريَّ انطلاقًا من التَّجمعات البشريّة والتّجاريّة بين الشرق والغرب، فقد كانت ساحاتُ طريقِ الحريرِ وقوافلَ تومبوكتو وميناء البندقيةَ تُشكل جامعاتٍ متنقّلةٍ يتبادل فيها الفِكر والعِلم واللُّغة بِفعل الاحتكاك والتجارب الواقعيّة.
كل هذا ساهم في الانتقال الفَرديِّ ثم الجَماعيّ للمعلومات والمعارفِ بالسَّفر بين حدود الجغرافيا، مثل خلايا النحل التي تنقُل الرحيق غير آبهةٍ بعائق جوازِ السفر، فمن سمع بالبخارِي أو سِيبَوَيْه والكِسائي يعلم أن التّرحال كان زادهُم، والتّعلّم من أفْواه العلماء مَرْشَدُهم، والحصول على العلم من أصحابه مَبلَغَهُم ومقْصَدُهم، كما كان في زمانهم مناراتٌ يقصدها كلُّ طامعٍ في التعلّم كدمشقَ وقرطبةَ وبغدادَ، وأيضًا أولياءٌ صالحون يستقبلون طلبة العلم الذي كان أغلبُهُم يحُجّ بيت الله، وفي الوقت نفسه يَطوف على أهل العلم أثناء مسيرِه بين البلدان.
أَستحضرُ كلَّ هذه الرحلات التي أنشأَت تاريخنا المعرفيّ، والتي بَقيت إلى زمنٍ قريبٍ مُرتبطةً بالتّعلم الحضوري والمُوجب للانتقال الذَّاتيّ للمتعلّم إلى حيثُ يتواجد المُعلم، مُقارِنًا إيّاها بما وصلت إليه تكنولوجيا اليوم والعادات البشريةِ التي تغيرت معها، فاليوم، مثلًا، كانت لي مُقابلةٌ تعليميّةٌ بالعمل على تطبيقِ "Microsoft Teams"، تهدفُ للاطلاع على جديد الإِجراءات التّقنية التي تستوجبها وظيفتي وعلاقتها بالصّحة والسّلامة، لم يُكلفني ذلك سوى النقر على رابطٍ لأجد نفسي أمام قسمٍ افتراضيّ لا أثر فيه للطباشير أو لتلك السّبورة السوداء أو الممسحة، كل شيء إلكترونيّ وتفاعليّ كما أن المُعلم بالفَصل يُمكنه أن يجعل القِسم يصمتُ كُليًّا بنقرةٍ فقط على زرّ كتم الصوت، كما قد تعدّدت هذه الدَّورات التكوينيّة التي جَعلتني بعدها أبحثُ في مواقعَ عن تَعلم لغاتٍ أخرى أكسبُ مَعها شهادةً إلكترونيّةً أو ورقيّة مُرسلة لعنواني يمكن أن تكون مجانيّةً أو مدفوعةً، طبعًا بعد اجتيازِ امتحاناتٍ على الحاسوب فقط ودون حاجة لمراقبٍ أو أوراقٍ تحريريّةٍ، والإيجابيّ أكثر بالنسبة لي من كل هذا أن هذا النظام ليس مرتبطًا بتوقيت حضور مُعيّن ولا بأستاذ مُوحّد، فأنا من بإمكاني اختيار الأستاذ الذي يسعني فهمه وتقبُّل تقنياته التواصليّة.
كلّ هذا التغيِير الذي طرأَ مُؤخّرًا، والذي غيَّر مفهومي عن التعلّم، أَتى متأَخّرًا نِسبيًّا مُقارنةً بالغرب الذي يَعتبر التّعلم عن بُعد آليّةً مفيدةً واختيارًا ناجعًا في التعلم من المنزل بدل الحضور الإجباريّ، خاصةً لدى الحالات الخاصة أو التي تُعاني من مشاكلَ صحيّةٍ أو نفسيّةٍ مثلًا. وبالنسبةِ لعملي فقد كانتِ الظرفيّة الوبائيّةُ فرصةً أُولى لتجربة التعلمِ عن بُعد، والتي صارت منهجًا نتّبعه حاليًّا في نظام الترقية المهنيّة حسب النتائج التي أتحصّلها افتراضيًّا بشكل أوتوماتيكيّ، فَقبلًا كانت هذه الدوراتُ التكوينيّةُ تُكلّف الشركة انتقال العاملين ليومٍ كاملٍ وترك المكتب لساعاتٍ تَقِلُّ فيها مردوديّة العمل، وأيضًا تتطلّب مصاريفَ عديدةً كتغذية المتعلّمين وتوفير الفضاء والآليات التعليميّة حسب نوعية المُحتوى، كل هذا صَار مُقتصِرًا على مُجردِ شاشة حاسوب أو فقط الهاتف الخاصّ، كما ساهمَ في تقليلِ شكايات الطّعن في نتائجِ الترقية والتشكيكَ بمصداقيّة المنهج القديم الذي كان بشريّ محض.
عَيشُ هذه التجربة الانتقالية جعلني أشعرُ بأن التقدّم الذي وصلنا إليه اليوم قد اختصر كل الأميال التي قطعها أسلافنا، والصّحاري التي قد لفظ بها بعضُ رحّالة العلم أنفاسهم أثناء انتقالهم لطلب العلم، فاليوم وبمجرّد وجود شاشة بقياس ستة بُوصات يسر كل ذلك في نقرة زرٌ، فبدل عبور البحر الأبيض المتوسّط ومُقايضة الفرنسيِّين بميناء مارسيليا يمكنني الآن فقط البحث عن موقع لتعلّم اللغة الفرنسيّة والالتزام لفترة أمام شاشةِ الحاسوب لتعلّمها، وبدل الانتقال بين جبال الألب والتَّوهان بين غابات قَشْتالة لتعلم الإسبانيّة يكفي الآن زيارة موقع يوتيوب، أو أيَّ تطبيقٍ مُتخصّص لتعلم أبجديات اللغة وإتقانِها حتّى أكثر من أهلها. وكما يقال "مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ"، ومن الفوائد التي كسبتها في خضم مُصيبة كُورونا هذه، أنّني صرتُ أستطيع أخد كوب القهوة ببيتي والاستماع لدرس الأمس وإعادة الفيديو لمرّاتٍ إن فاتني شيء، والفضل راجع لبقائه مسجّلًا على موقع الشركةِ الخاصّ يشبه ذلك ميّزة إعادة لقطةَ تسلّلٍ في كرة القدم على الشاشة أو حتى إيقافَ الفيديو لبُرهةٍ حتى أُضيفَ قطعةَ سكرٍ أخرى بالفنجان.
كل هذه المتغيرات التي شهدتها من موقعي، وشهدها العالم أيضًا من احتياطات اتّخذت لوقاية النفوس البشريّة من العدوى، مع ما حملته من ابتعاد عن الالتقاء والاحتكاك بين الناس، إلّا أن هذا التحوّل الفجائيّ حمل في طيّاته مفاجأة أهمّها ترقية النظام التعليميّ والعمليّ.