الأعمال اليدويّة: ضرورة نفسيّة وتربويّة في عهد الغزو التكنولوجيّ
الأعمال اليدويّة: ضرورة نفسيّة وتربويّة في عهد الغزو التكنولوجيّ
2024/10/20
أجدور عبد اللطيف | كاتب صحفيّ وباحث تربويّ- المغرب

ونحن نشاهد أيّ وثائقيّ عن إحدى دول آسيا الشرقيّة، إندونيسيا أو ماليزيا أو تايلاند أو مناطق من الصين مثلًا، يبرز دومًا قبالتنا على الشاشة ذاك الشيخ، أو تلك العجوز التي تفترش الأرض محاطة بأطفال من حفدتها أو متعلّميها، وهي تقوم بإنجاز عمل يدويّ ما: تخيط شباكًا أو ثيابًا؛ تعدُّ قواقع أو تمزج أعشابًا؛ تصنعُ سلالًا أو أدوات ديكور وزينة، أو تجهّز أعشابًا برّيّة من أجل وصفة دوائيّة أو أكلة.

الابتسامة والسكينة اللتان لا يخطئهما الحدس، تلازمان ذلك الوجه المتجعّد عندما ينجز هذه الأشغال. وبغضّ النظر عن الفقر، والذي يعتبر غالبًا الدافع وراء الاشتغال ببعض الأنشطة اليدويّة، فإنّ العمل اليدويّ البسيط هو من ركائز هذه الحضارات، ومن دعائم مقوّمات وجودها التاريخيّ المبهر.

ما يهمّ من المسألة أكثر هو الأطفال الذين يشاركون في هذه الأعمال، ويمرّنون أياديهم الفتيّة من غير إكراه؛ تلك الأيادي التي تحتاج إلى عمل تنشغل به، وتشكّل به وعيًا مستقلًّا، وتربط عن طريقه علاقات حسّيّة مع الوجود والموجودات. إنّها فطرة أصيلة في بنية البشر منذ الإنسان البدائيّ (الذي لم يكن بدائيًّا تمامًا)، منذ اتّجه إلى القطع والتشذيب، والنحت والتشكيل والصياغة، والإضافة والحذف والخطّ والتعدين... فأنتجَ فأسًا وسهمًا وشكّل صوانًا وفروًا. لقد أدرك البشر عبر هذه الاختراعات التي غيّرت مع تواليها وجه التاريخ، جبروتَ العمل، وضرورة تسخير قدرات العقل الجبارة لتصبّ عبر نهر اليدين الخلّاقتين. ولعلّ أعظم ما طبع رحلة يدي الكائن البشريّ هو التوصل إلى الكتابة، ومن ثمّة تأليف روائع الأدب والفكر والمعرفة والعلوم، ما أخرجه من مصاف الكائنات البهيميّة الأخرى، وخوّله استحقاق إنسانيّته.

لقد اعتبرت الفيلسوفة سيمون فايل العمل حاجة روحيّة، شأنها شأن التفكير والحبّ والتعاون والعيش المشترك. واعتبرتها حاجة تربويّة مركزيّة في تشكيل الوعي السليم المبدع كما أسلفنا. كما يشير المفكر سعيد ناشيد في إحدى مقالاته عن فوائد العمل إلى لفتة ماتعة، هي أنّ تركيز الطفل في عمل يدويّ يعني اندماجه في الحاضر بشكلٍ كلّيّ، وابتعاده عن بعض ذكريات الماضي السيّئة، وعن بعض التوجّس من طبيعة المستقبل الذي لم يحن بعد؛ مستقبل يبدو كلّ يوم أكثر قتامة. وكذا، لفت النظر إلى كون إدمان العمل اليدويّ يمكِّن من التحكّم بالعقل المطبوع بالميل للسهو، وإنفاق الوقت في الشرود والخيالات.

بما أنّ طبيعة الإنسان الخمول والكسل، فإنّه يصطلح على النوم عادة بتعبير: استسلمت للنوم. أمّا النهوض، فلا بدّ له من استفراغ الجهد وبذل القوّة. لذا، فتعويد الطفل مزاولة الحرف يلقّن الجدّ والكدّ وحبّ العمل والإنتاج، ويدفع عنه السأم والكلل والخوائيّة والعدميّة، ويقوده إلى الإيمان بأنّ رسالة الحياة هي العمارة والبناء والتشييد والإغناء والاغتناء.

لقد ظلّ العمل اليدويّ منفصلًا عن المدرسة وأماكن التدريس لقرون طويلة. ولم تتعالَ نداءات التربويّين والنفسانيّين لدمج أنشطة حرفيّة في المدارس والثانويّات سوى خلال العقود الأخيرة. يعزو الباحث في علم الاجتماع الأستاذ ريتشارد سينيت هذا إلى "أنّ السبب الذي أدّى إلى فصل العمل اليدويّ عن الذهنيّ هو الأفكار الخاطئة التي وصلت إلينا من قدماء الإغريق، والذين كانوا يرون أنّ العمل اليدويّ أقلّ قيمة وتبجيلًا من العمل الفكريّ أو الذهنيّ، على الرغم من أنّ البعض يعزو ذلك إلى ظهور النظام الصناعيّ في القرن التاسع عشر، وبروز نخبة من المهندسين الموكّلين بالتفكير قبل التصنيع". ولكلام الأستاذ سينيت وجه حقّ صريح إذا استحضرنا بُنية المجتمع الإغريقيّ، والتي كانت تعتبر التعلّم مرادفًا للتأمّل والإنتاج الفكريّ مقتصرًا على النبلاء، حيث توكل الأعمال اليدويّة عادة إلى العبيد، سواء الزراعيّة أو الحرفيّة. ومع ذلك، أسهمت الدراسات التي بيّنت مجانبة هذا التصوّر للصواب، في تغيير نظرة الناس في المجتمع المعاصر إلى الأعمال اليدويّة؛ فمهنة النجّار، مثلًا، في الخيال الجمعيّ الأمريكيّ ذات رمزية أكثر سمُوًّا من مهنة المصرفيّ. وبالتالي، اتّجهت العديد من الأنظمة التعليميّة إلى اعتماد حصص دراسيّة خاصّة بالعمل الحرفيّ، وإنشاء محترفات وورش لتلك الغاية، داخل أروقة المدارس. ولعلّ أبرزها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإن كانت ما تزال محدودة، وبعض الدول الأوروبّيّة، مثل فنلندا. أمّا دول جنوب شرق آسيا، فتدخل هذه المادّة في صميم المنهاج الدراسيّ. أمّا الدول العربيّة، فما تزال تنظر إلى هذا العنصر المهم نظرة هامشيّة، لاعتبارات بيداغوجيّة، وتنظيميّة، واقتصاديّة كذلك. ذلك من غير أن نهمل استثناءات هنا وهناك، كما هو الشأن في المملكة العربيّة السعوديّة، والتي تجتهد لإيجاد صيغ للاستفادة من فوائد الأعمال اليدويّة العصيّة على الحصر.

من الواقعيّ والنبيه جدًّا استثمار طاقات الأطفال في ورش العمل اليدويّ بكل أصنافها، خزفًا وجلدًا وخشبًا وحديدًا وورقًا، في المدارس كما في البيوت. ولا عجب أنّ شخصيّات مشهورة تُنشئ ورش نجارة أو حدادة أو غيرها في منازلها. ولا غلوّ في توصية الكثير من النفسانيّين وعلماء التربية بمعالجة الكثير من الاضطرابات النفسيّة والانحرافات السلوكيّة لدى الأطفال بتمكينهم من العمل اليدويّ؛ ففي ذلك تحرير لهم من الشحنات النفسيّة السالبة، وتفجير لطاقاتهم المكبوتة، فإنّ -كما يقول ناشيد أيضًا - "اليدين اللتين لا تتقنان فعل أيّ شيء، سرعان ما تصبحان خطرًا على الروح".