يُعدّ القرن الحادي والعشرين عصر التفوّق العقليّ للإنسان، إذ تكوّن نتيجة مكتشفاته التي تحدّت بُعدَي الزمان والمكان. تحدّى العقل البشريّ المجهول، وتعيّن عليه اكتشاف غير المعلوم، كما ابتكر من الأساليب ما يحفظ تراثه الفكريّ الذي ضاق في كثرته عن أن يجد له مكانًا يحفظه، سواءً في عقله، أو في عالمه الواقعيّ.
"التفكير جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب علم جديد من معارفه السابقة". محمّد باقر الصدر
ظهر اتّجاه ترقية التفكير نتيجة للتوجّه نحو مهارات التفكير العليا، وردّ فعل على السلبيّات التربويّة التي نتجت عن التعليم القائم على الأنشطة. فالإنسان أصبح بحاجة إلى مهارات تساعده في معالجة المعلومات الموجودة في بيئة مواقف الحياة التي يواجهها، أكثر من مجرد حفظ حقائق لم يتعلّم كيفيّة تطبيقها في المواقف الحياتيّة، أو لحلّ مشكلاته.
المعلم نموذجًا لترقية التفكير
يُعدّ المعلّم الشخصَ المسؤول عن إعداد المتعلّمين للتعايش في مجتمعهم، إذ يقدر على تصميم مجموعة من الأنشطة، يحقّق من خلالها أهداف ترقية التفكير لديهم. ويكون محور هذه الأنشطة هو التحدّي لعقولهم، مع مراعاة الفروق الفرديّة بينهم. هُنا، يستخدم العقل بطريقة أوسع وأعمق عندما يتطلّب الموقف من المتعلّم أن يحلّل، ويفسّر، ويُقيّم، ويعالج معلومات من أجل حلّ مشكلة ما، أو الإجابة عن تساؤلٍ ما. ولا يمكن أن يحدث ذلك من خلال الأساليب الروتينيّة، أو التطبيق الآليّ لمعلوماتٍ سابقة. ولا بدّ أن تكون المشكلة أو التساؤل قد تحدّى تفكيره، الأمر الذي يجعله يمرّ بتدريبات لم يمرّ فيها من قبل، فيستخدم معلوماته، ومهاراته التي سبق أن اكتسبها ليطبّقها في هذا الموقف الجديد، فيكتسب خبرات جديدة، تُمكّنه من مواجهة المواقف الجديدة.
عناصر تحقيق ترقية التفكير
كي نحقّق ترقية التفكير لدى المتعلّمين مع مخرجات التعليم، لا بدّ من دمج عناصرها في جوهر المنهج، وتتمثّل هذه العناصر في ما يأتي:
1. عمق المعلومات: كي يصبح التفكير منطقيًّا، ومقبولًا عقليًّا، يجب ألّا يكون بمعزل عن المجالات المعرفيّة، أو معرفة معيّنة. فالتفكير يدور دائمًا حول شيء معيّن، أو محتوى معيّن، فلا بدّ لواضعي المناهج تجنّب وضع موضوعات تحوي حقائق مفكّكة، بل موضوعات تغطّي مساحة كبيرة من الخبرات التراكميّة للبشر؛ لتعمّق فهم المتعلّم، وتحقّق التكامل والترابط بين معلومات الموضوعات، أو الموضوع الواحد.
2. المهارات العقليّة العليا: تُقصد بها مجموعة من الأنشطة المعرفيّة أو الإستراتيجيّة التي يستخدمها المتعلّم للإجابة عن تساؤل أو حلّ مشكلة، وتشمل: القدرة على بناء جدل منطقيّ، ونقد المجالات، وتحديد المشكلات، وتقديم حلول، وبدائل متنوّعة، والقدرة على التأمّل والإبداع، وتحليل المعلومات، وتفسيرها، وتقييمها، ومعالجتها، والقدرة على الاستدلال، وربط الأسباب بالنتائج. ولا بدّ من تدريب المتعلّم على تلك المهارات، وإنتاج أنشطة أبعد من مجرد جمع المعلومات، فعندما يواجه مشكلة غير روتينيّة، فسوف تصبح تلك المهارات أداة مهمّة لمواجهة ذلك التحدّي.
3. التطبّع على التفكير: هي مجموعة من الخصائص والاتّجاهات التي تؤكّد فعاليّة استخدام المعلومات، والمهارات العقليّة، باعتبار أنّ عمق المعرفة، والمهارات العقليّة، على قدرٍ من الأهمّيّة لإتقان تحدّيات معيّنة. ولكن، بدون التطبّع على التفكير، والميل إليه، يصبح تدريس المهارات، والمحتوى، وتطبيقها، من غير أهمّيّة. ومن أهمّ الأنشطة التي يمكن أن يستخدمها المعلّم لتكوين الميل نحو التفكير لدى المتعلّم، ما يأتي:
- - الموضوعات المتناقضة.
- - مشكلات متضاربة الحلول.
- - موضوعات تتضمّن صراعًا قيميًّا.
- - نظريات تبرز عدم الاتّفاق في ما بينها.
- - موضوعات تشمل أحداثًا غير متوقّعة أو مثيرة للدهشة.
- - ثقافات متنوّعة تتطلّب من المتعلّم تحليلها، وتقييمها، ومقارنتها ببعضها.
صعوبات تعوق ترقية التفكير
هناك عدّة صعوبات دائمًا ما نجدها تقف عقبة أمام التحدّيات الفكريّة الجديدة التي يحتاج إليها تطوير التعليم في مدارسنا، ونلخّص هذه الصعوبات بالآتي:
1. زيادة حجم المحتوى، وكثافته.
2. زيادة عدد المتعلّمين في الفصول.
3. عدم توافر الدافعيّة نحو التفكير.
4. عدم توافر الوقت لتخطيط الدروس.
5. عدم توافر المهارات المعرفيّة بشكلٍ كافٍ.
6. عدم معرفة المعلّم بالأساليب الحديثة في تدريس التفكير.
7. عدم توافر التصميمات التعليميّة التي تركّز على التفكير.
8. كثرة العبء التدريسيّ للمعلّمين، وتكدّس جدول الحصص.
9. أساليب إعداد الاختبارات التي تركّز على قياس حفظ المعلومات.
كيفيّة التغلّب على صعوبات ترقية التفكير
يمكن التغلّب على صعوبات ترقية التفكير من خلال توافر عدّة متغيّرات أو عوامل في مدارسنا، وتتمثّل تلك العوامل فيما يأتي:
1. استخدام أسلوب التدريس بالفريق، ويتمثّل في تعاون المعلّمين متعدّدي التخصّصات في تخطيط دروسهم، ونقد بعضهم البعض، وعمل ندوات لإدارة الصفّ، وتقييم المعلّمين الأقران، ويعقب ذلك ندوة لمناقشة ما مورس داخل الصفّ.
2. استخدام أسلوب التعلّم التعاونيّ، بدلًا من تفريد التعليم؛ إذ يساعد المعلّمين على تقليل الملاحظة لكلّ متعلّم على حدة، كما يساعد على تعلّم المتعلّمين من بعضهم البعض.
3. زيادة ثقة المعلّمين في قدرات المتعلّمين، الأمر الذي يسهم في تدريس التفكير لجميع المتعلّمين، بغضّ النظر عن الخلفيّة التحصيليّة لهم، فلا يجد المعلّمون داعيًا للقلق من أثر هذه المتغيّرات في جهودهم في ترقية التفكير.
4. ظهور جماعة المربّين المطوّرين، وتتكوّن من أعضاء هيئة التدريس بأقسام المناهج وطرائق التدريس في كليّات التربية. يعاونون المعلّمين في تطوير تدريسهم، وتدريبهم على كيفيّة تحقيق ترقية التفكير.
وفي الأخير، لا بدّ من معالجة القصور في تفكير المعلّمين، حتّى لا تقف بنا عجلة السبق في التقدّم، والأولويّة في ميزان القوى العالميّ، وحتّى لا تضيع علينا ريادة العالم في الركب الحضاريّ، فلا بدّ أن نسرع في معالجة هذه القضيّة التي جعلت كافّة جهودنا التربويّة، المادّيّة منها والبشريّة، تضيع سدى بلا عائد يقابل هذه الجهود.
فلا يمكن أن ننكر كمربّين أنّنا نعيش مظاهر الحضارة كالدول المتقدّمة، فكلّ منّا يملك أدواتها، ولكنّ الاختلاف بيننا هو أنّهم مخترعون، بينما نحن مستعيرون؛ فليست الحضارة أن نمتلك أدواتها، وإنّما الحضارة أن نبتكر أدواتها بأنفسنا، لتكون لنا مكتشفاتنا المتميّزة.