يوميّات معلّم
يوميّات معلّم
نهيل عبدالقوي شديد | معلمة وباحثة ومنسقة أكاديمية-مصر

يوم المعلّم مليء بالأحداث المختلفة، منها السعيد، ومنها الحزين، ومنها مواقف فيها من التحدّيات التي يجب أن يتعامل معها المعلّم بأفضل طريقة ممكنة، وفي بعض الأحيان تخرج الأمور عن السيطرة. يقرأ المعلّم كتبًا كثيرة ويتّبع نظريّات مختلفة ليستطيع التعامل مع هذه المواقف، ولكن، تكون لكلّ موقف في الحقيقة تفاصيل مختلفة عمّا تفترضه النظريّة، ومن هنا جاءت فكرة "يوميّات معلّم".

* * *

"الأحد، 20 سبتمبر 2023 

اليوم الدراسيّ الأوّل بعد إجازة صيفيّة أنهيتها بالاستعداد للسنة الدراسيّة الجديدة بالعديد من الأنشطة والأفكار للاستمتاع بالحصّة. متحمّسة جدًّا للبداية، هيّا لنبدأ السنة الدراسيّة 2023-2024. سأبدأ السنة مستعينة بقول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى} (النجم، 39). فلنبدأ بالسعي."

بدأتُ  السنة الدراسيّة الجديدة بفكرة جديدة، وهي التدوين. أمضيت اليوم في المدرسة، وبعد أوّل يوم دراسيّ ممتع، رجعت لأكتب سطرين جديدين في اليوميّات. 

"وبعد يوم حماسيّ مليء بالأحضان والضحكات قابلت أولادي من السنة الماضية، في مرحلة جديدة. تكلّمنا عن الإجازة، وكلّ منّا أخبرنا ما فعله في الإجازة. لا يوجد الكثير من الأحداث اليوم، وغدًا نبدأ يومًا جديدًا ممتعًا ومفيدًا إن شاء الله".

 

أهمّيّة تدوين اليوميّات

في "يوميّات معلّم"، يكتب المعلّم ما مرّ به أثناء اليوم، لأنّ التدوين مهارة مهمّة جدًّا. وقراءة ما دُوِّن بعد وقت معيّن مفيد للمعلّم من زوايا مختلفة. يساعد التدوين في كثير من الأحيان على فهم مواقف حدثت والاستفادة منها بعد قراءتها عن بعد. كما يعدّ تحويل المشاعر إلى كلمات متنفَّسًا ومساعدًا على إخراج هذه المشاعر، ولا سيّما إذا كانت مشاعر سلبيّة.

فالمعلّم يتعامل طوال اليوم مع نفوس بشريّة وشخصيّات مختلفة وحالات نفسيّة تتغيّر كثيرًا، وعلى المعلّم في جميع هذه المواقف أن يتصرّف بحكمة قدر المستطاع، وأن يقيّم الموقف قبل أن يبدي أيّ ردّة فعل. ومن هنا، تكمن صعوبة مهنة المعلّم لأنّها تُشكِّل الشخصيّات، وتتعامل مع القلوب قبل العقول.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: هل ينقصني، كوني معلّمًا، أن أضيف إلى مهمّاتي اليوميّة الكثيرة مهمّة أخرى، هي التدوين؟ وأن أضيف إلى التزاماتي التزامًا جديدًا؟ والإجابة، بالتأكيد، نعم. إذا تعرّفنا إلى فوائد التدوين والكتابة اليوميّة للصحّة النفسيّة لمعلّم يواجه طوال اليوم تحدّيات ومواقف لها علاقة بقلوب البشر وبناء شخصيّاتهم، واتّخاذ قرارات وردود أفعال تؤثِّر مباشرة في بناء الإنسان، فالشأن الأكاديميّ والشرح هو الجزء الأيسر في مهنة المعلّم. 

 

فوائد الكتابة والتدوين

أظهرت نتائج عديد من الدراسات حول الكتابة والتدوين فوائد كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال تقليل الضغط: فمهنة المعلّم مهنة ضاغطة جدًّا، وعلى المعلّم أن يكون هادئًا مستقبِلًا كلّ المواقف بحكمة، وهذا يسبّب، في أحيان كثيرة، ضغطًا عليه، يزول بعضه عند إخراجه عن طريق الكتابة. فالقلق والضغط والأفكار السلبيّة تخرج من رأسي وأضعها أمامي على الورق في كلمات، أحاول فيها وصف مشاعري مع ذكر الموقف المتسبِّب في ذلك، وبذلك أستطيع تقييم الموقف تقييمًا أكثر عقلانيّة. 

ومن فوائد الكتابة أيضًا أنّها تساعد على تحسين التركيز، فمع محاولة المعلّم تذكّر الموقف، ومحاولة التعبير عن المشاعر والأفكار التي تدور في عقله بترتيب ووضوح، يجد نفسه أكثر انتباهًا وتركيزًا. 

كما توجد للتدوين فائدة عمليّة كبيرة للمعلّم تساعده على المستوى العمليّ في تطوّره المهنيّ، أبدؤها بفكرة مشابهة قرأت عنها في مقال مترجم بعنوان "كيف يمكن لكتابة فلسفتك التعليميّة ومراجعتها أن تغذّي ممارستك؟"، تتحدّث فيه الكاتبة عن فكرة مشابهة للتدوين. هي لم تدوّن يوميّاتها، ولكنّها كتبت فلسفتها عن التعليم بعد تخرّجها في الجامعة، وقرأتها بعد عدّة سنوات. مع كلّ مرّة تعود إليها تقرؤها بعين مختلفة، فتقارن بين الواقع التعليميّ الذي تعيشه اليوم، وما كانت تعتقده أو تتصوّره كمعلّمةً في بداية الطريق. 

هناك مثال آخر للتدوين، كتاب صغير قرأته للكاتبة سلوى محمد العوا (2000)، سردت فيه مواقف حدثت لها في الفصل، وحوارات مع الطلّاب. كتاب طريف لطيف، وأنا شعرت، كوني معلّمة، بكلّ كلمة في هذا الكتاب، واستفدتُ من عرض المعلّمة للموقف وتعليقها عليه. قسّمتِ الكتاب إلى أبواب أو عناوين، كلّ عنوان يدلّ على موقف معيّن: 

 

البحث عن طريق: أوّل امتحان

"خرجت من الفصل بعد أن علّقت على لوح الإعلانات نتيجة تخرّج الطلّاب، ضميري كان يعذّبني، ويخنقني بأذرع عنيفة كأخطبوط هائل. قرّرت أن أعذّب نفسي، وبدأت هكذا: كذبت على الطلّاب اليوم؛ هل أعطيتهم درجاتهم الحقيقيّة؟ لا تنكري أنّك أخفيت الحقيقة عنك وعنهم، وأنّك قست قياسًا خاطئًا، ثمّ قياسًا غير دقيق، ثمّ كتبت على لوحة الإعلانات نتائج تعبِّر عن الفروق بينهم ولا تعبِّر عنهم..." (العوا، 2000، 38).

هذا جزء ممّا كتبته المعلّمة سلوى، وصف مشاعر سلبيّة مرّت بها ذلك اليوم. كتابتها لهذه المشاعر جعلتها تفكِّر في طريقة أخرى لعرض المشكلة، فكتبت بعد ذلك: 

"وجدت نفسي ثائرة ومتحاملة عليها، وعلى نفسي، وقرّرت، بعد ليلة نوم عميق، أن أفكِّر في الأمر بموضوعيّة. فبدأت هكذا..

لا بأس بإضافة أخرى إلى مجموعة التجارب الفاشلة.. 

وجدت أنّ هذه البداية لا تبشِّر باستمرار التفكير الموضوعيّ، وقرّرت أن أبدأ مرّة أخرى بموضوعيّة.

فبدأت هكذا.

لا بأس، هذا خطأ آخر ستستفيدين منه بالتأكيد، كما تستفيدين من كلّ الأخطاء" (العوا، 2000، 38).

هل شعرتَ، كونك معلّمًا، بالراحة وأنت تقرأ ما كتبته المعلّمة سلوى كما شعرتْ؟ تعاطفت معها وحاولت التفكير معها. فلتدوين مواقف المعلّم التربويّة فائدة شخصيّة وعمليّة، كما هناك فائدة لمن يقرأ هذه التدوينات أو اليوميّات بعد ذلك. ونستطيع أن نبدأ بالتدوين بعد الاطّلاع على النقاط الآتية: 

تنظيم الوقت 

ليكون التدوين من ضمن الجدول اليوميّ للمعلّمة أو المعلم، يجب أن أنظِّم وقتي. فمن أسّس مهنة المعلّم أن يكون منظَّم الوقت، ولديه جدول أعمال شبه ثابت: مواعيد حضور وانصراف مدرسيّة منضبطة، ومواعيد حصص منضبطة، ومواعيد للراحة منضبطة. 

وفي المنزل، يعمل كلّ معلّم في الغالب بعض الوقت، فمهنة المعلّم مهنة مستمرّة. والمعلّم في وقت العمل يعلِّم الطلبة، وفي بقية الأوقات يتعلّم. يخصِّص المعلّم بعض الوقت للتحضير الأكاديميّ، ومع تعرّفه إلى أهمّيّةَ التدوين سيخصَّص وقتًا له.

متى سأكتب؟ 

في نهاية اليوم، كنوع من أنواع التفريغ، كما ذكرنا في أهمّيّة التدوين عامًّة. يراجع المدرِّس يومه وأهمّ الأحداث التي مرّ فيها. هناك أيّام توجد فيها مواقف مختلفة وتحدّيات جديدة، وهناك أيّام هادئة وجميلة، وهذه أيّام يُدوَّن فيها أجمل موقف تعرّض إليه، أو يُحمَد الله على اليوم الهادئ المفيد، وهناك أيّام روتينيّة لا يكون فيها ما يستدعي الكتابة. ففي البداية، لن تكون الكتابة يوميّةً حتّى تتحوّل إلى عادة يحتاج إليها المعلّم للاستمرار. فالأمر في بدايته يحتاج إلى بعض الإلزام والتحفيز والتدريب. 

فكرة للتدريب على التدوين 

بدأ الأمر معي بتخصيص كرّاسة ألصق فيها كلّ رسمة أو جواب أو ورقة مكتوب عليها كلمات حبّ، أو كلمات كتبها الطالب في المنزل، ولكنّه كتبها بطريقة جميلة مختلفة لإسعادي. كلّ هذه الوريقات كنت ألصقها في كرّاسة صفحاتها بيضاء، وأكتب بجانب كلّ ورقة التاريخ، ومن أهداني إيّاها، والموقف المصاحب لذلك. 

شعور جميل أن يكون لدينا كلّ هذه الذكريات، والتي تكون فيها السلوى في أيّام ضغط العمل، أو أيّام الاستسلام، أو في وقت مواجهة مواقف صعبة مع بعض الطلّاب. فيصيب المعلّم منّا شعور بالفشل أو الإحباط، فمثل هذه الوريقات تشحذ الهمّة مجددًّا وتحيي الأمل. 

ثمّ تطوّر الأمر إلى كتابة بعض المواقف التي واجهتها، وكتبت خطوات التعامل مع الطالب. وفي أغلب الأحيان، كنت أشاركها مع الزميلات، ولا سيّما عندما يصعب التعامل مع الطالب. ولكلّ معلّم حرّيّة اختيار الطريقة والشكل اللذين يكتب بهما يوميّاته، فتُخصَّص كرّاسة معيّنة كما يفضّل كلّ معلّم: فيها سطور، وصفحاتها بيضاء، ومربّعات. كما تستطيع أن تصمّمها على الكمبيوتر. أبدأ بنقاط معيّنة للتدريب على التدوين، مع اختيار التقسيم الذي يناسبني، والمحتوى الذي أشعر أنّني أريد أن أحتفظ به. ولكلّ معلّم حرّيّة الاختيار، إن كان بالكتابة أم الرسم أم الاثنين معًا. 

وإجمالًا، ما الفائدة التي ستعود عليّ من ذلك كلّه؟ 

إذا سلّمنا أنّ المعلّم قرّر ونظّم وقته، واستطاع أن يقتطع وقتًا للتدوين اليوميّ، فلهذا الأمر فائدة خاصّة وفائدة عامّة.

أمّا فائدته الخاصّة بالمعلّم نفسه، فتكمن في أنّ التدوين بمثابة تفريغ للمشاعر بتحويلها إلى كلمات مقروءة. يستطيع المعلّم بقراءتها مجدّدًا تحليل المواقف التي مرّ فيها والتعلّم منها. وهذه المسافة مع الموقف ورؤيته من زاوية مختلفة تساعد على التفكير، ثمّ إعادة شحن الطاقة بحلول وأفكار جدّيّة للاستمرار. وهي، كذلك، حافظة للذكريات التي تمرّ على المدرِّس، فتكون هي السلوى عند الشعور بالتعب أو الإحباط. 

وأمّا الفائدة العامّة، فكتابة المعلّم المواقف التي تواجهه ووصفها وصفًا دقيقًا، مثل شخصيّة الطالب صاحب الموقف، كيف كان ردّ فعله؟ وما شعوري كمعلّم تجاه ذلك؟ وكيف تصرّفت معه؟ فيمَ أخطأت؟ وكلّ هذه الأمور لا تكون موجودة عادة في كتب التربية التي تحتوي، برأيي، على نظريّات صماء، ولا تناسب دائمًا جميع المواقف التي تواجه المدرّس في الفصل، والتي إن لم يعشها المعلّم، فلن يفهمها. وهذه المواقف تكون بمثابة مرجع مبدئيّ لكلّ مدرّس يريد أن يقرأ يوميّات مدرّسين آخرين يشاطرونه التحدّيات والصعوبات ذاتها، ولكنّ الفرق أنّ لهذه اليوميّات نهاية مبدئيّة واضحة: عندما تصرّفت، كونك معلّمًا، بهذه الطريقة فيمَ أخطأت؟ وكيف أصبت؟

 

* * *

مؤمنة إيمانًا شديدًا أنّ يوميّات المعلّم، إذا التُزم بكتابتها، ستكون مرجعًا تربويًّا يستطيع المعلّم به متابعة تقدّمه وتطوّره في التعامل مع الطلّاب. كما يستطيع غيره من المعلّمين قراءتها والاستفادة منها. 

فلنستعن بالله، ونبدأ في تدوين مذكّراتنا لنَفيد ونُفيد. 

 

المراجع

- العوا، سلوى محمّد. (2000). مذكّرات معلّمة. دار الشروق.