كيف تتخيّل شكل التّعليم لو لم تكن هُناك مدارس؟ وكيف ترى مستقبل المدرسة كمكانٍ؟
في المقام الأوّل لا بدّ من التّنويه أنّ الأصل ليس المدرسة في التّعليم، فلا طالما تعلّم النّاس في البيوت والكتاتيب وغيرها من الأماكن الّتي وظفت لتعليم الناشئة، أي أنّ المعرفة أهمّ من المكان، وأنّه في عصر التطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ أصبح البحث عن المعرفة يتجاوز حدود وجدران المدرسة وأنّ التّعليم ليس محصورًا بقاعة الدرس وهذا ما تأكدّنا منه خلال الجائحة.
كذلك لا بدّ من التّأكيد على أنّ المدرسة ككيان لم تتطوّر كثيرًا وما زالت بشكلها الكلاسيكيّ الّذي انطلقت به؛ غرفة بطاولات وسبورّة وأستاذ، وهذا ربّما ما جعل الباحثين في الشّأن التربويّ يتوقّعون مستقبلها كمكان ستقل أهميّته شيئا فشيئا ليتلاشى مع الوقت.
لكن في رأيي الشخصيّ؛ تبقى المدرسة النّظاميّة كوعاء جامع لأفراد وعناصر الجماعة التّربويّة ضرورة لا بدّ منها، ولا يمكن لكلّ التّطبيقات الّتي أوجدها التطوّر الرّقميّ أن تلغي وجود المدرسة كمكان، أو أن تدفعنا للاستغناء عنها على الأقل في المستقبل القريب، لكن كلّ ما تحتاجه هو إعادة القولبة لتتماشى وهذا التطوّر السريع الّذي يحدث في محيطها.
كيف تصف تجربة التعليم الحضوريّ/ الوجاهيّ، بعد تجربة التعليم عن بُعد؟
لقد وضعتنا الجائحة أمام حتميّة تجربة التّعليم عن بعد، وقد كانت تجربة تفاعليّة استكشافيّة جعلتنا نسبر أغوار هذا العالم ونكتشفه، ومثمرة إلى حدّ كونها مكنّتنا من انقاذ السنّة الدّراسيّة، لكن صراحة لا يمكن الاستغناء أو حتى تعويض التّعليم الحضوريّ/ الوجاهيّ، فالعمليّة التّعلميّة هي عمليّة تفاعل بين المعلّم والمتعلّم وهذا أمر لا يتحقّق بنسب كافية إلّا بوجودهما في مكان واحد، خاصّة في مرحلة التّعليم الابتدائيّ حيث لا يقتصر التدريس على نقل معلومات فقط بل يحتاج الطّفل إلى التفاعل مع محيطه اليوميّ والتواصل مباشرة مع المعلّم والشعور بوجوده وحركاته وإيماءاته لزيادة تحصيله الدّراسيّ.
لكن في المقابل يمكن اعتماد مقاربة التّعليم الهجين والّذي هو خليط ما بين الحضوريّ والافتراضيّ، وذلك بالاستفادة من التّعليم عن بعد ودمجه مع التّعليم الوجاهيّ، وهي نفس المقاربة الّتي اعتمدتها في السّنة الماضيّة نظرًا لضيق الوقت الّذي ترتب عن اللجوء للتدريس بالأفواج وقد أعطت نتائج مبهرة مع تلاميذي في المقام الأوّل، وكذلك مع المشتركين والمتابعين لصفحتي التّربويّة على منصّة فيسبوك والذين فاق عددهم المئة ألف في المقام الثّاني.
اختر شيئًا واحدًا تودّ تغييره في تعليم اليوم؟ لماذا؟
هناك العديد من الأشياء الّتي أود أن تتغيّر لتتماشى وعصر التطوّر الّذي نعيشه؛ كالشكل الكلاسيكيّ لقاعات الدّرس وطرق التدريس الجافة التقليديّة الّتي أساسها التلقين، والمناهج الدراسيّة الّتي تتسم بالحشو والّتي أرهقت كاهل التّلاميذ وغيرها من الأشياء.
لكن أهم شيء يجب البدء به هو ظاهرة الدروس الخصوصيّة الّتي حولت التّعليم إلى تجارة واستنزفت جيوب الأولياء، والأدهى والأمرّ أنها أصبحت حتى أهم من الدروس النظاميّة في المدرسة في أقسام الامتحانات، لذلك على القائمين على الشأن التّربويّ البحث عن أسباب هجرة التلاميذ للمدارس للالتحاق بدروس المستودعات بأسعار خياليّة وعند أشباه أساتذة، والضرب بيد من حديد لاسترجاع هيبة المؤسّسة التّربويّة الّتي أصبحت تهدّدها هاته الكيانات الموازيّة.
برأيك، كيف يُمكن توظيف الفنون أو الموسيقى في التعليم؟
لا شك أن الفنّ عنوان للرقي والإبداع وأسلوب حياة لا بدّ من توظيفه في العمليّة التّعليميّة التعلّميّة لجعلها أكثر بساطة ومحبّبة لدى التّلميذ، وفي هاته النقطة لا بدّ من التذكير بنظريّة الذّكاءات المتعدّدة لصاحبها "هاورد غاردنر"، حيث نجد من بين الذّكاءات العشرة الّتي عدّدت الذّكاء الموسيقيّ الإيقاعيّ والفراغيّ البصريّ، وكذلك البدنيّ العضليّ والّتي كلها تصب في تنميّة الجانب الوجدانيّ الفنيّ للتلميذ. أنا شخصيًّا أوظّف مسرحة الأحداث في النصّوص، ما يجعل الطفل يهتمّ بمحتوى النصّ وقيمه وشخصيّاته بغرض نيل شرف الحصول على دور في المسرحيّة، كما يتمّ توظيف المحفوظات والقصائد الشعريّة في اكتساب اللّغة وحفظ القواعد اللّغويّة والرياضياتيّة، حتى الرسم له دور مهم في دروس الرياضيات والهندسة أو الدّروس العلميّة وحتى الاجتماعيّة؛ فحين يرسم التّلميذ خريطة أو جهازا من أجهزته العضويّة فهذا يسهل عليه عمليّة التّعلم أكثر، كما أنه وسيلة فعالة في التعبير عن حاجات و رغبات الأطفال و أفكارهم و مشاعرهم.
ببساطة كلّ محتوى علميّ يغدو بسيطًا وسهل التقبّل من طرف التّلميذ إذا غلّفناه بغلاف فنّيّ.
إذا طُلب منك ابتكار طريقة جديدة لتقييم الطلبة، ماذا ستكون هذه الطريقة، وعلى ماذا ستعتمد؟
في أوّل الأمر لا بدّ من التسليم بأمرين هما: أن التقييم هو عمليّة لقياس الأداء ومدى التمكن من المّادة المدروسة بغية تحسين هاته الكفاءة وتطويرها مستقبلًا وليس لقياس مستوى الطالب، وثانيًّا أنّ التقييم أوسع بكثير من مجرد امتحان جافّ يعتمد على الحالة النفسيّة في يوم إجرائه، وحتى لا نظلم التّلميذ لا بدّ من تأخير عمليّة التقييم في السّنوات الأولى، كما هو معمول به في دول رياديّة في مجال التّربيّة كفنلندا، وأن يكون هذا الأخير واسعًا وشاملًا لباقي السّنوات ومثمّنا لكلّ ما يقوم به التّلميذ خلال الحصّة وخارجها طيلة أيّام العام الدّراسيّ، من بحوث ومشاريع وإبداع وابتكار ومشاركة في العمليّة التّعليميّة التعلّميّة، وبالتالي الحكم على الأداء بأشكال متنوّعة وليس على القدرة على الحفظ واسترجاع معلومات سينساها بمجرد نهاية الامتحان.
كيف يُمكننا توظيف تفاصيل الحياة اليوميّة في التّعليم؟
يقول "جون ديوي" أن التّربيّة ليست مجرد إعداد لحياة مستقبليّة بل هي الحياة ذاتها وعمليّة من عمليّاتها، ومن هنا ننطلق لنقول أنّ الحياة اليوميّة والتعليم وجهان لعملة واحدة، فلجعل التعليم ذا معنى وأكثر فاعليّة لا بدّ من ربطه بالحياة الواقعيّة، وقد وجد التّعليم لتعليم الإنسان مهارات الحياة وتسهيل تعاملاته اليوميّة ولا فائدة من كمّ معلومات مجرّدة لا تمتّ للواقع بصلة، فمثلًا أن يحفظ التّلميذ جدول الضّرب ليحلّ به العمليّات بامتياز بينما يفشل في حساب المبلغ الّذي عليه دفعه في المخبزة. هنا يمكننا القول إنّ العمليّة التّعليميّة مجرّدة ولا تفيد في الواقع ولا بدّ من إعادة النظر فيها، ويمكن إسقاط هذا المثال على كافّة الموادّ الأخرى، فلا بدّ من ربط الوضعيّات التّعليميّة التعلّميّة بواقع التّلميذ والمحيط الّذي يعيش فيه وأن يكون المغزى منها هو كيفيّة التصرف في المواقف الحياتيّة الّتي تواجهه كلّ يوم.
ما هو التعبير الذي تُحبّ أن تراه على وجوه الطلبة؟ وكيف تحبّ أن يكون شعورهم وهم يغادرون المدرسة؟
التعبير الّذي يجعلني فخورًا بنفسي لأنّني أحدثت تغييرًا في سلوك المتعلّم هو تعبير الدّهشة على وجوههم عند تعلّم شيء جديد أو اكتشاف معلومة غير مسبوقة، وإلّا فما فائدة التّعليم إذا بقي الوعاء فارغًا وتساوى ملمح الدّخول إلى المدرسة في الصباح مع ملمح الخروج منها في المساء.
أمّا عن شعورهم عند مغادرة المدرسة فإنّ أهم شيء هو الرّضا والارتياح مع التشوّق ليوم غد جديد ورحلة ومعلومات جديدة، فشعور الرضا يولّد الشعور بالسّعادة والحبّ والامتنان بين المعلّم وتلاميذه وهذا أساس نجاح العمليّة التّعليميّة التعلّميّة فكما يقول سقراط "ماذا تريدني أن أعلّمه؟ إنّه لا يحبّني!"، ولهذا يجب السّعي إلى الوصول إلى قلبه قبل عقله.
من هو الطالب المُلهم؟
قد تختلف الرّدود في هاته النقطة بين الأساتذة، لكنّ الأغلبيّة يلهمها ذلك الطالب الّذي يشارك بحماسة في بناء التّعلّمات ودائمًا ما يسأل باستمرار ويعتريه فضول للبحث ومعرفة كلّ شيء.
أما بالنسبة لي فكلّ طالب في صفّي هو طالب ملهم، يكفي فقط معرفة اهتماماته وميوله والبناء عليها ليكون متميّزًا.
كصديقٍ، ما هي نصيحتك المُتكرّرة للطلبة؟
كمربّي ومرشد في الدّرجة الأولى ثمّ كصديق في الدّرجة الثانيّة دائما ما أزود طلبتي بالكثير من النصائح الّتي قد تفيدهم في حيواتهم كممارسة الرّياضة وحفظ القرآن الكريم وتعلّم لغات جديدة وتعظيم شأن العلم ورسم أهداف والسّعي لتحقيقها دون نسيان أن يعيشوا مرحلة الطفولة بكلّ تفاصيلها والاستمتاع بها.
لكن ككاتب وباحث في مجال القراءة أهمّ نصيحة أصرّ عليها هي المطالعة، بكلّ بساطة لأنّها نافذتهم على العالم وسبيلهم لاكتشاف أنفسهم وغيرهم، تحت مبدأ "علّموا أولادكم المطالعة وهي بدورها ستعلمهم كلّ شيء".
إذا طُلب منك اختيار وجهة الرحلة السنويّة لطلّابك، أيّ مكان تختار؟
في العادة لا أحبّ أن أستبدّ برأيي أو أن أفرضه على تلاميذي في كلّ شيء يقبل النقاش والحوار حتى لا يحسّ التّلميذ أنّي أمارس عليه سلطة ويشعر بأهميّة رأيه في القسم أو المدرسة ككلّ، وأغلب الرّحلات الّتي قمنا بها اختيرت وجهتها بطريقة ديموقراطيّة عن طريق التصويت، لكن إن رجع الاختيار لي أكيد سأختار إمّا رحلة إلى معرض الكتاب فأنا لا أفوّت فرصة لتقريبهم إلى عالم القراءة، أو التخييم في إحدى غابات بلادي الجزائر وسط طبيعتها الخلابة مع تركهم يعتمدون على أنفسهم وتوظيف ما تعلّموه في واقعهم وجعلهم يفكرّون خارج الصّندوق لحلّ مشاكل تعترضهم، فلطالما كانت الطبيعة هي المعلّم الأوّل.