تتعاقب الأيّام والشهور في غزّة دونما جديد سوى الموت الذي طال الصغار قبل الكبار.
تمرّ كلّ هذه الأيّام والشهور من دون أن ألتقي بطالباتي كلّ صباح لأردّ لهنّ التحيّة، وأتفقّد الحاضرات والغائبات؛ أن أستيقظ كلّ صباح من دون تأدية تحيّة العلم الفلسطينيّ، ومن دون الاستماع إلى السلام الوطنيّ ونشيد "فدائيّ يا شعبي يا شعب الخلود"، من دون أن يبدأ يومي بحضن دافئ من طفلتَي الصغيرتين سارة وسندس، وهما على استعداد تامّ للذهاب إلى المدرسة، وكأنّهما تذهبان إلى موعد مع الحياة والحبّ والأمل.
أتعلمون ما الذي يشبه الموت؟
هو أن يبدأ اليوم من دون أن أصافح زميلاتي المعلّمات على مدخل باب غرفة المعلّمات الجميلة الدافئة، ومن دون أن تبتسم لي الحياة في وجه الجميلة فاتن أبو الكاس، مديرتي الفاضلة وأختنا الحنون، ومن دون كوب الشاي تقدّمه لي حبيبتي وزميلتي أم زهير في وقت الفراغ، والذي كنّا نجتمع خلاله في غرفة الزميلة الأميرة أميرة. أن تفتقد هذا كلّه في لمح البصر أمرٌ أشدّ من الموت، وأن يطول الانتظار للعودة شعور أصعب من الموت نفسه.
أتعلمون ما الذي يشبه الموت؟
أن تبدأ يومك بأخبار القتل والقصف التهجير والتعذيب والمجازر والإبادة والإعدام لأطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا. وأن تتابع المواقع والإذاعات الإخباريّة علّك تسمع خبر اتّفاق على وقف إطلاق النار. هنا في غزّة شاخت القلوب، وذابت ملامح البشر، وأصبحنا في عالمٍ لا يعرف عنه العالم سوى مجموعة من لقطات الصور والفيديوهات، والتي تحاول أن تُوصل معاناتنا إلى العالم... ولن تصل.
أتعلمون ما الذي يشبه الموت؟
أن تشاهد في المواقع الإخباريّة الشارع الذي يؤدّي إلى منزلك وقد تحوّل إلى مقبرة للشهداء، وكذلك الشارع الذي يقع خلف منزلك. كما تشاهد شارع المدرسة بات مقبرة جماعيّة مكسّرة، تكاد لا تميّز القبور فيها لشدّة زحام الشهداء هناك. في محيط مدرستي، فقدت هناك الكثير من بناتي الطالبات، شهيدات هنّ وعائلاتهنّ بالكامل.
المؤلم أكثر من الموت هو ما تراه عند المرور بالبيوت المدمّرة كُتِبَ على بقايا جدرانها "الطفل فلان ما يزال تحت الأنقاض"، لعلّ سيارات الإنقاذ تخرجه للصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير.
أتعلمون ما هو أشدّ من الموت؟
هو أن يرسل إليك صديق صورة لمنزلك الذي حولته براميل البارود إلى ركام: كومة من الحجارة وبقايا ذكريات وحبّ وحنين مع كلّ زاوية في إحدى الغرف، والتي تحوّلت إلى قطع صغيرة تكاد لا تعرف من أيّ زاوية جاءت هذه القطع، لكنّك بالتأكيد تعرف تمامًا أنّها زوايا بيت العزة والكرامة.
أتعلمون ما هو أشد من الموت؟
تلك الجراح التي قد لا تلتئم أبدًا ما حيينا، تلك الآلام الغائرة في صدورنا. ما هو أشد من الموت أن تعيش شابًّا فتيًّا بداخلك كهلٌ مسنٌّ، تجاوزت جراحه وأنينه قوّة الصبر والتحمل لمليار مسلم مجتمعين.
ما هو أشدّ من الموت ألّا نقوى على البوح
من شدّة المتاعب، من هذا التكرار القاتل للأيّام، من الإحساس بالعجز وقلّة الحيلة، ومن انتظار قادم الأيام التي يلفّها الغموض الكامل.
أشدّ من الموت أن تفكّر كثيرًا في ما الذي يشفي قلوبنا المنهكة من كلّ تلك الندوب؟ وتجيبك مجريات الأحداث بأنّ الحياة هنا عالقة، تتأرجح كثيرًا لتلقي بنا جميعًا في مسار غامض يشبه غموض الأيّام المؤلمة، والتي لا نعرف كيف نجونا منها حتّى اللحظة.
الأصعب من الموت هنا رائحة الموت. الأصعب من الموت هنا في غزّة هو النجاة من الموت حقًّا.
مات من نجا ونجا من مات.
يا ربّ، أنت ملاذنا. أعدنا إلى نومة هانئة، وليلة دافئة، وجمعة طيّبة، وحياة كريمة، وبيوت معمّرة. أعدنا إلى مقعد دراسة وسبّورة وطبشورة. أعدنا إلى إذاعة مدرسيّة صباحيّة نغنّي لفلسطين، ونقدّم مقطعًا مسرحيًّا قصيرًا عن هويّتنا العريقة وثقافتنا المميّزة وتاريخنا المشرّف، ونشدو في طابور الصباح وكلّ صباح: "فدائيّ يا شعبي يا شعب الخلود".