لا تجعل صمته يحبطك: أَعِنه في اكتشاف قدراته الكامنة
لا تجعل صمته يحبطك: أَعِنه في اكتشاف قدراته الكامنة
نسرين كزبور | باحثة ومدرّبة تربويّة ومعلّمة رياضيّات- لبنان

في عالم مليء بالتحدّيات والمنافسة، يواجه بعض المتعلّمين صعوبة في تقدير ذواتهم. فتقدير الذات ليس مجرّد شعور بالرضا عن النفس، بل هو ما يبني عليه الفرد إمكاناته، ويحدِّد مساره وخياراته في الحياة. وضعف تقدير الذات حالة يشعر فيها الفرد بالنقص والخجل من الظهور وانعدام الثقة بالنفس وانخفاض الدافعيّة، وقد يؤدّي إلى حالات أكثر سلبيّة، كالخوف من المخاطرة، والفشل، والرفض، وتجنّب التحدّيات، والعزلة، والاكتئاب، وتراجع القدرة على الإبداع. فما تقدير الذات؟ وما إيجابيّاته؟ وما أساليب تعزيزه؟ 

 

حول مفهوم تقدير الذات ومقتضياته

تقدير الذات ليس بالأمر السهل، إذ يتطلَّب وعي الذات، وقدرة على رؤية الأشياء بموضوعيّة، وأن يكون الفرد واعيًا لما يريد تحقيقه. وتقدير الذات العالي مهمّ لمساعدة الفرد على مواجهة التحدّيات والتعامل مع المشكلات بفعّاليّة، وبناء علاقات صحّيّة ومتوازنة. كما يزيد الثقة بالنفس، ويحسّن الأداء الأكاديميّ والمهنيّ. ولتعزيز القدرة على تقدير الذات، يجب تحديد أهداف واقعيّة والعمل على تحقيقها، والتحلّي بالصبر والشجاعة، بالإضافة إلى دعم المجتمع. فتقدير الذات ليس رحلة يوم وليلة، بل هو عمليّة مستمرّة تتطلّب الصبر والمثابرة. فحين نقدِّر ذواتنا نفتح الباب أمام إمكانات وإبداعات لا حدود لها، لبناء مستقبل مشرق.  

يرى Maslo أنّ تقدير الذات هو الرغبة التي تؤدّي إلى تحقيق إمكانات الفرد الكاملة، حيث صنّفها في أعلى هرمه للاحتياجات، مشدِّدًا على ضرورة تصاعد الاحتياجات: من احتياجات الفرد الأساسيّة للبقاء، مرورًا باحتياجات الأمن والحاجة إلى الحبّ والاحتواء، فالحاجة إلى التقدير والاحترام والشعور بالإنجاز، وصولًا إلى تحقيق الذات والإنجازات (Hepper, 2016). وترى جرجس (1985) أنّ الخجل عاطفة تدفع الفرد إلى الشعور بالنقص، بالمقارنة مع غيره، وإلى أنّ الآخرين سينتقدونه دومًا، ولن يتقبّلوه أبدًا. وعرَّفت العناني (2014) الدافعيّة بأنّها حالة داخليّة في الفرد تستثير سلوكه، وتدفعه في موقف معيّن، وتعمل على استمرار هذا السلوك حتّى يحدث الموقف، فهي تسير حسب التسلسل الآتي: الشعور بالحاجة؛ وجود الحافز؛ صدور الاستجابة؛ تحقيق الهدف والشعور بالراحة والتوازن، أو عدم تحقيق الهدف واستمرار التوتّر أو التكيّف مع البيئة. أمّا مصطفى (2016) فعرّفت الثقة بالنفس بأنّها قدرة الفرد على الاعتماد على نفسه، واتّخاذ القرار المناسب، وتحلّيه بالعزيمة والإصرار وإدراكه قدراته.

 

اكتشاف ضعف تقدير الذات 

في إحدى مدارس شمال لبنان، ثمّة متعلّم في السنة الثانية من المرحلة الثانويّة - الفرع العلميّ، خلوق، وهادئ، ومنتظم، ولا يتكلّم مع أحد، ويتجنّب المشاركة داخل غرفة الصفّ وخارجها، ولم يحدث أن سمع صوته أحد في المدرسة. أمّا تحصيله الدراسيّ فمتوسّط مع تراجع تدريجيّ. يشعر هذا الطالب دائمّا بأنّه أقلّ من غيره، علمًا أنّه لم يتعرَّض إلى مضايقات من رفاقه في الصفّ، أو في المدرسة. والجدير بالذكر أنّه حينما يُطلب إليه التعبير شفهيًّا عن أيّ فكرة أو حلّ تمرين معيَّن، يبرِّر بأنّ صوته بشع؛ ممّا يؤثّر في طريقة تعبيره وكتابته، مع أنّه يقول ذلك بصوت منخفض، وبينه ومعلّمته. ومع مرور ثلاثة أشهر من السنة الدراسيّة، وتدهور مستواه التعليميّ، لوحظ تكرار غيابه، ممّا استدعى تدخّل معلّمة الرياضيّات التي لاحظت أنّه يعاني ضعفًا شديدًا في تقدير ذاته، فأبلغت الإدارة بحالته، وعرضتها على اختصاصيّ نفسيّ من أصدقائها، حيث وضع بين يديها نصائح واستراتيجيّات علاجيّة متعدّدة. وحينها، سمحت لها الإدارة بمتابعة وضعه، في محاولة لمساعدته على تخطّي مشكلته.

 

تجربة عدنان 

في منتصف السنة الدراسيّة 2022-2023، في شهر كانون الثاني من سنة 2023 بالتحديد، بدأت مرحلة التدخّل في حالة عدنان (اسم مستعار)، تحت عنوان مساعدته على زيادة تقديره ذاته، واستمرّت لأكثر من سنة. في البداية، عقدت المعلّمة مع عدنان عدّة جلسات لمعرفة السبب وراء هذا الضعف، ولكن لم يتجاوب معها. وطلبت مقابلة أولياء أمره، ولكنّهم لم يبدوا ردّة فعل بشأن هذه المشكلة، ولم يتضّح السبب الكامن وراء ذلك. عندها، قرّرت الخوض في الأمور العمليّة لملاحظة التطوّرات، وتضمّن هذا التدخّل عدّة مراحل كالآتي: 

المرحلة الأولى: العمل الجماعيّ 

قرّرت المعلّمة إنشاء مجموعات متحرّكة، أي لكلّ درس مجموعات مختلفة، وذلك ليتسنّى لها دمج عدنان مع متعلّمي صفّه كافّة. وأثناء العمل، كانت المعلّمة تركِّز على سلوك عدنان، وتفاعله مع الآخرين، وتقدّم له الدعم والتغذية الراجعة، من دون أن يطلب إليها، وذلك بهدف تعزيز ثقته بنفسه بتمكينه من المعارف ومشاركتها مع رفاقه وإنجاز المهمّات المطلوبة، وكانت تسأله دائمًا إن واجهته صعوبات في الفهم أو التطبيق. وكالعادة، بقي عدنان المتعلّم الهادئ الخلوق الذي لا يُسمَع صوته أو تعليقه، رغم أنّه يفهم المعلومات كلّها ويطبّقها بسلاسة، إلّا أنّه لم يكن يشارك أحدًا، بل أدّى دور المنصت فقط، واستمع إلى توجيهات معلّمته. ولكنّها بدورها لم تستسلم، على رغم أنّ المرحلة الأولى استغرقت وقتًا طويلًا وشارفت السنة الدراسيّة على نهايتها، فانتقلت إلى المرحلة الثانية. 

المرحلة الثانية: التعبير والإلقاء  

طلبت المعلّمة إلى من يرغب من المتعلّمين تحضير ثلاث جمل تلخّص السنة الدراسيّة (جملة تصف السنة الدراسيّة، وجملة تعبّر عمّا استُفيد من السنة، وجملة تحاكي المستقبل - التخصّص الجامعيّ). وأخبرتهم بأنّها ستصوّرهم: كلّ متعلِّم على حدة، ثمّ تعدّ فيديو خاصًّا بهم ليُعرَض على صفحة المدرسة في الفيسبوك. وأعطتهم الوقت الكافي للمشاركة والتحضير، وطلبت إليهم تشكيل لائحة بالأسماء المشاركة، وبعد استلامها لم يكن اسم عدنان موجودًا، فقرّرت التحدّث معه في اليوم ذاته لإقناعه بالمشاركة. وبالفعل، طلبت المعلّمة إلى عدنان البقاء في غرفة الصفّ أثناء انعقاد الاستراحة الأولى، وبدأت بطرح الأسئلة عليه: ماذا أعددت للتصوير؟ أنا هنا لمساعدتك. فأجابها: لا أريد المشاركة، أخشى أن ينتقدني الرفاق لأنّ صوتي سيّئ! فأجابته: ها أنت تتكلّم بصوت جميل، لا أعتقد أنّ في صوتك شيئًا يستدعي القلق والخوف، ثمّ سألته: هل ترى هذه السنة الدراسيّة سيّئة؟ فأجاب بـ"لا"؛ فقالت: هذا يدلّ على أنّ لديك إيجابيّات عن هذه السنة الدراسيّة تودّ الاحتفاظ بها لنفسك. ولكنّه بقي صامتًا، فعلّقت المعلّمة بجملة أخيرة: "يا عدنان أرى حبّ الحياة في عينيك، وأعلم جيّدًا أنّك تستطيع فعل الكثير، وتمتلك القدرة على ذلك، وأتمنّى أن تترجم الأفعال التي نودّ سماعها ورؤيتها، ثمّ غادرت. وفي مساء اليوم نفسه، تفاجأت المعلّمة برسالة نصّيّة من عدنان يخبرها برغبته في المشاركة بالنشاط المطلوب، فأجابته المعلّمة بالقبول، من دون أن تسأله عن التحضيرات. 

في اليوم المحدّد للتصوير، تجهّز الجميع للتصوير في غرفة المكتبة. يدخل كلّ متعلّم يعبِّر عمّا في داخله من أفكار، ثمّ يخرج ليدخل غيره، وهكذا دواليك حتّى وصل الدور إلى عدنان. دخل عدنان غرفة المكتبة، ولم يبدُ عليه أثر الخوف. شجّعته المعلّمة وطلبت إليه البدء بالكلام، فتفاجأت بتمكّنه من عرض أفكاره من دون تردّد أو خوف، على عكس معظم المتعلّمين. والأهمّ من ذلك، تعبيره عن رغبته بأن يكون رسّامًا في المستقبل، لأنّ لديه موهبة الرسم. وبعد انتهاء التصوير، أثنت المعلّمة على جهوده المبذولة. وبعد عودتهم إلى المنزل، تلقّت المعلّمة رسالة نصّيّة من عدنان مفادها تراجعه عن الفكرة وعدم رغبته في عرضها على صفحة المدرسة، ولكنّ المعلّمة أكّدت له انتهاء مهمّتها هنا، فالباقي من مهمّات الإدارة وأنّها ستختار أفضل المتعلّمين في الإلقاء لعرض ذلك. وبعد انتهاء الإنتاج، عُرض الفيديو على صفحة المدرسة، وانبهر الجميع بسماع صوت عدنان وطريقة تعبيره والإفصاح عن خططه المستقبليّة. حصل ذلك بعد نهاية السنة الدراسيّة.

المرحلة الثالثةاستثمار القدرات 

في مطلع السنة الدراسيّة الجديدة (2023-2024)، وأثناء التحضيرات لانطلاقها، ولا سيّما في فترة التسجيل وتوزيع المتعلّمين إلى شعب، طلب عدنان مقابلة إدارة الثانويّة، وذلك ليطلب إليهم أن يكون في الشعبة التي تعلِّم فيها معلّمته السابقة، مبرِّرًا أنّه لمس تغييرًا على يدها، وأنّها تشعره بالأمان وهي متابعة وضعه من السنة السابقة. دهشت الإدارة من تصرّف عدنان، ووافقت على طلبه، لأنّها فعلًا لمست تحسُّنًا في طريقة تعاطيه مع مجتمعه، على رغم أنّ الإدارة لا تسمح بمثل هذه الطلبات، ولا سيّما لمتعلّمي السنة الثالثة من المرحلة الثانويّة. ومع بداية موسم التعليم، كانت المعلّمة مستعدّة لاستكمال متابعة عدنان بكلّ حماس، وفي جعبتها تغيير في سلوكه، بالإضافة إلى موهبته في الرسم التي ستكون شرارة تغييره.

أثناء الحصّة التعليميّة الأولى في صفّ عدنان، عرّفت بنفسها، وطلبت إلى المتعلِّمين تقديم أنفسهم. وبالفعل، بدأ كلّ متعلّم التعريف بنفسه، حتّى وصل الدور إلى عدنان. تكلّم بصوت عالٍ يصحبه خجل واضح في تقديم نفسه، وبعد الانتهاء من مرحلة التقديم طلبت المعلّمة إعداد رسم توضيحيّ لإحصاء التخصّصات للمتعلّمين، فقالت بصوت مرتفع: "من منكم يجيد الرسم وبإمكانه مساعدتي؟" وإذ بعدنان يرفع يده لمساعدتها، فأشارت إليه للوقوف بجانبها قرب اللّوح، لأنّها تعدّ ذلك فرصة ذهبيّة لإظهار موهبته ودعمها، وزيادة ثقته بنفسه، والحصول على دعم رفاقه. وبالفعل، رسم عدنان رسمًا مذهلًا على شكل شجرة موضّحًا أغصانها ليكتب التخصّصات المتقاربة في كلّ غصن. واللافت في ذلك أنهّ كان المتعلّم الوحيد الذي يودّ التخصّص بالرسم؛ ما منحه تميُّزًا. وبعد الانتهاء، أبدى الجميع سعادتهم وإعجابهم بهذا النشاط، لأنّ عدنان حاكى طموحاتهم وأذهلهم بإبداعه، وأثنى الجميع على موهبته؛ ما أسهم في زيادة تقديره ذاته. وبعد انتهاء الحصّة، طلبت المعلّمة إلى عدنان البقاء معها للتحدّث، وطرحت عليه سؤالًا: ما هذا التغيير الإيجابيّ؟ فكان جوابه مختصرًا: "كما قلتِ إيجابيّ، تغيّرت، لأنّ هذا أفضل لي، ولك الفضل في ذلك". 

المرحلة الرابعة: دعم البيئة التعليميّة  

خلال سير العمليّة التعليميّة، في جميع المواد الدراسيّة، وأثناء عمل المجموعات، وبالأخصّ توزيع المتعلّمين، بدا واضحًا أنّ كلّ مجموعة تتمنّى وجود عدنان معها. ظهر ذلك جليًّا خلال العمل والتفاعل والمشاركة لإتمام المهمّات. هنا، تابعت الإدارة عدنان بتقارير المعلّمين ورصد التغيّرات التي طرأت، وطلبت إلى جميع المعلّمين تحفيزه دائمًا وتكليفه بمهمّات. وبعد مرور شهرين على انطلاق السنة الدراسيّة، بدأ السلوك الإيجابيّ يتبلور بوضوح في ممارسات عدنان الجديدة المليئة بالإيجابيّة والدافعيّة والثقة الممزوجة بالطيبة وحبّ الغير. كيف لا، وهو محبوب من الجميع، ويتمنّى رفاقه أن يمتلكوا موهبته في الرسم؟

من ناحية أخرى، كان عدنان يبادلهم المحبّة برسم صورهم وإعطائهم إيّاها كذكرى بينهم، يعلّقونها على لوحة العرض الخاصّة بصفّهم. كما طلبت الإدارة تشكيل فريق لمساعدته في تزيين المدرسة استعدادًا لفصل الربيع، وتزامنًا مع نهاية الفصل الدراسيّ الأوّل. وبالفعل، استعان بثلاثة متعلّمين من كلّ صفّ، ووزّع الأدوار عليهم، وأعدّوا لائحة بالأدوات، مع توضيح آليّة التزيين. وافقت الإدارة على الفور، ولا سيّما حين علمت أنّ عدنان سيبادر برسم شجرة خاصّة لكلّ صفّ، متضمّنةً أسماء المتعلّمين. استغرق هذا النشاط حوالي عشرة أيّام. وبعد الانتهاء، ذهِل الجميع من هذا الإنجاز الذي يظهر مدى تعاون الفريق وإبداعه. كلّ هذا من شأنه أن يعزِّز ثقة عدنان بنفسه، ويرفع من تقدير ذاته؛ ما أسهم بتحسين دافعيّته إلى التعلّم وتطوير تحصيله العلميّ. فهذا الاحتواء جعل عدنان يشعر بقيمة ذاته وقيمة المجتمع الذي يعيش فيه، وأدرك أهمّيّة التفاعل والمشاركة والتواصل في حياة المتعلّم. 

 

* * *

ختامًا، يتبيّن لنا كيف يمكن للتوجيه والمتابعة وتوفير الدعم المناسب وتسليط الضوء على القدرات الكامنة أن تُحدث فرقًا كبيرًا في حياة المتعلّم، ولا سيّما المتعلّم الذي يُظهر ضعفًا في تقدير ذاته. فتقدير الذات ليس مجرّد هدف نسعى إلى تحقيقه، بل هو رحلة مستمرّة من النموّ والتطوّر. هذه التجربة علَّمتنا أنَّ الثقة بالنفس تنبع من الداخل، حيث تكمن طاقاتنا الدفينة، وتنمو مع كل تحدٍّ يواجهنا ونستطيع تجاوزه. ولكن، هل يكفي ذلك لتنمية مهارات المتعلّم، ولا سيّما الإبداعيّة منها، في عالم سريع التطوّر؟   

 

المراجع 

-جرجس، ملاك. (1985). الطفل الخجول: كيف نشجِّعه ونرعاه؟. دار اللواء للنشر والتوزيع. 

-العناني، حنان. (2014). علم النفس التربويّ. دار صفاء للنشر والتوزيع. 

-مصطفى، همت. (2016). استخدام موقع التواصل الاجتماعيّ الفيسبوك وعلاقته بالثقة بالنفس وتقدير الذات والأمن النفسيّ لدى عيّنة من طلّاب المؤسّسات الإيوائيّة. مجلّة كلّيّة التربية-جامعة الأزهر. العدد 167. 281-351. 

https://jsrep.journals.ekb.eg/article_7583_50c7c895793c576c5e3c8776dddbc1a9.pdf

-Hepper, E.G. (2016). Self-Esteem. In: Howard S. Friedman. Encyclopedia of Mental Health. 2(4). Academic Press. 80-91.  

https://www.researchgate.net/publication/301662815_Self-Esteem