عُلّقت الدراسة صباح السبت السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ولم يأتِ صباح الأحد لاستئناف الدراسة بعد.

كنتُ أؤمن تمامًا بأنّ الطبيعيّ هو أن نقوم كمعلّمين بالعمليّات التعليميّة، من خلال أنظمة التعليم داخل أروقة المنشآت التعليميّة، وفي الغرف الصفّيّة، حسب خبرتي المتواضعة ستة عشر عامًا في التعليم، وحسب المتفق عليه في أنظمة التعليم والعاملين فيها في العالم، ولكن ثمّة أشياءٌ تحدث هُنا في قطاع غزة غيّرت قناعاتي حول ذلك.

الأمر بسيطٌ جدًّا، هنا يتعلّم الكبير والصغير في مدرسة الحرب على غزّة. هنا، كلّ يوم، ألف حكاية تُروى، وألف حكاية تُعاش، وألف حكاية تُسمَع، وألف حكاية تُدرَّس، وألف حكاية تُكتَب، وألف جرح ينزف. ومن جرحنا الغائر تعلّمنا، وما زلنا نتعلّم، وسنتعلّم ما لم يتعلّمه هذا العالم بأسره.

أجبرت الحرب أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف فلسطينيّ غزّيّ أن يتعلموا بالتجربة، وبالاكتشاف والممارسة، ما لم تعلّمه لهم المدارس، وما لا يمكن أن يُقرأ داخل الكتب المنهجيّة واللامنهجيّة إطلاقًا.

في قطاع غزّة، تجد الأطفال يتخصّصون في التحليل السياسيّ منذ الصغر؛ يعرفون لغة بلدهم وهي تعرفهم، يجيدون الاستماع إلى كبارهم في جلساتهم في ممرّات مراكز الإيواء وفي داخل الغرف الصفّيّة، والتي أصبحت مأوى لمئات الآلاف منهم. يربطون تاريخ بلدهم بما يعيشونه في حاضرهم. يسهل عليهم مع الخبرة تحليل الأحداث وما يجري في الميدان، ويسهل عليهم التنبّؤ بما هو قادم، ويعرفون جيّدًا كيف يتفادون الأزمات وكيف يتغلّبون على الصعاب، يعرفون جيّدًا أنّ النعمة لا تدوم، وأنّ ظروف المعيشة المتقلّبة منحتهم صِفة المرونة التي قلّما تجدها في بلد آخر سوى غزّة. تجدهم يتحدّثون عمّا حدث وما سيحدث في فلسطين، وكأن التاريخ يعيد نفسه وتتوالى النكبات على هذا الشعب المكلوم، وهم يتعلّمون بالخبرة والواقع وبالتجربة المريرة مرارًا وتكرارًا آلاف المرّات.

بات الناس في قطاع غزّة خبراء في وضع الخطط البديلة للحياة؛ تجدهم مرّة في قصور فارهة، ومرّة في مراكز الإيواء، وأُخرى في خيام اللاجئين. شعبٌ عصيٌّ على الانكسار يجيدُ التعايش مع الظروف والأحوال كافّة، حتّى في أصعبها وأشدّها قسوة. لقد صنعت الحياة من سيّدات غزّة رجالًا، ومن أطفالها رجالًا ومن رجالها أبطالًا أولي بأس شديد، يجيدون التحمّل ويقدّمون الشهداء من أبنائهم وعائلاتهم، ويحبّون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلًا.

علّمتنا الحرب كيف نحافظ على أرواحنا أمام الدبابة ومن أسفل الطائرات الحربيّة، من أمام البيوت المهدّمة، ومن قلب شوارع غزّة المجرّفة. وعلّمتنا كيف نهرب بأطفالنا إلى برّ النجاة والله خيرٌ حافظًا.

أمّا الحياة المرسلة والظروف القاسية جدًّا في مراكز الإيواء فعلّمتنا الصبر والاحتساب، وعلّمتنا كظم الغيظ، وعلّمتنا أن نحسن مواساة الآخرين. وعلّمتنا أن نشعر بشعور الفقير، ومن لا مأوى له، ومن يعيش في بيت ينقصه سقف، ومن يعيش في خيمة في طرف المخيّم. علّمتنا مراكز الإيواء التأدّب في حضرة الموت. هنا في غزة تعلّمنا بالتطبيق والتجربة القول الشهير: "اخشوشنوا، فإنّ النعمة لا تدوم".

لم تكن حربًا عابرة، بل كانت أيّامًا وشهورًا من أعمارنا تنقضي، ونحن تحت القصف المستمرّ برًّا وبحرًا وجوًّا على غزّة. هنا تعلّمنا ألّا نطأطئ رؤوسنا إلا لله وحده، وتعلّمنا كيف نكون أحرارًا في زمنٍ يعِزُّ على كثير من شعوب الأرض أن تثبت حرّيّتها وكينونتها ووجودها.