في مدرسة الحرب الدائرة في قطاع غزّة، والتي شارفت على دخول شهرها الثامن، حُرم ما يقارب من ستّمائة ألف طالب وطالبة من حقّهم في التعليم، ودُمّرت مدارسهم، وتحوّلت الأخرى إلى مراكز إيواء النازحين. إلّا أنّ المفارقة العجيبة هي أنّ حالة التعلّم بقيت قائمة، على رغم قساوة المشهد وصعوبة الظروف؛ فمسار التعلّم الحياتيّ، والمجتمعيّ، والشعبيّ غير المقصود، واللّاصفّيّ، ما زال يشهد حالة من الحراك والحضور في كلّ لحظة: فمع الإغلاق الكلّيّ للمدارس، وتعطّل العمليّة التعليميّة، وضياع العام الدراسيّ، تعلّم الأطفال والطلبة في هذه المدرسة كلّ المساقات الدراسيّة، لكنّها كانت خارج أسوار المدرسة، وبعيدًا عن مقاعد الدراسة التقليديّة. ومن الشواهد على حالة التعلّم في مدرسة الحرب، ما رُصد عبر الملاحظة المباشرة خلال التدخّلات الميدانيّة، والمعايشة لواقع هؤلاء الطلبة والأطفال، حيث نلاحظ دخول مصطلحات جديدة على قواميس الطلّاب اللغويّة، سواء في لغتهم العربيّة الأمّ، أم في اللغات الأخرى، كالإنجليزيّة والعبريّة، وكذلك المصطلحات السياسيّة، والقانونيّة، والمؤسّساتيّة، إذ فهم الطلبة مضامين تلك المصطلحات، وباتت جزءًا من ممارساتهم الحياتيّة.
وعلى صعيد الجغرافيا، فهم الأطفال من جديد الحدود الطبيعيّة، والمساحات الجغرافيّة، والظروف المناخيّة، والزراعة بسلاسلها الغذائيّة، والبحر وحكاياته المختلفة؛ لأنّهم باتوا نازحين أمام الشاطئ، ممّا فتح لهم تساؤلات كثيرة، أفضت إلى إجابات مثّلت حالة تعلّم. كما تعلّموا جغرافيا الساحل ومكوّناته، وفي خضمّ تعلّم الجغرافيا نشأ لديهم وعي بالمناطق العازلة، والمناطق الإنسانيّة.
أمّا في الرياضيّات، فقد حاز الأطفال في غزّة تعلّمًا جديدًا، عبر سياقات جديدة، عرفوا خلالها الأطوال، والمقاسات، والكتلة، والأحجام، في مسارات تعلّم حياتيّة، تمثّلت في معرفة حجم الخيمة التي يعيشون فيها ومقاسها، ووزن الحطب، ومواعيد الحصول على الحصّة الغذائيّة، وسعة خزانات المياه بالكوب، وتفاصيل السيولة النقديّة وسبب انقطاعها، والسوق السوداء.
وفي العلوم، أجبرت الحرب الطلبة على الدخول في مسارات تعلّم عمليّة، تمثّلت في البحث عن طرق لحفظ الأطعمة بلا الثلاجات، وتنقية المياه من ملوحتها الصعبة، والبدائل القادرة على تعزيز صمود الناس حياتيًّا، مثل صناعة الخميرة الداخلة في صناعة الخبز، وكذلك استثمار الطاقة الشمسيّة كطاقة بديلة، في ظلّ انقطاع التيّار الكهربائيّ.
أمّا في ميدان التربية المدنيّة، والتنشئة الوطنيّة، خاض الطلّاب تجارب عمليّة في روح المواطنة، والانتماء، والتطوّع، والمبادرة في تقديم الخدمات، ومساعدة الجيران في مراكز النزوح والإيواء، وكسب الصداقات الجديدة، وفهموا ماذا يعني لهم الوطن، وماذا يعني لهم المصير المشترك.
حاله الحراك التعليميّة هذه جاءت بسبب إيمان الطالب الفلسطينيّ وأهله بأنّ التعلّم من مرتكزات الهويّة الوجوديّة للكينونة الفلسطينيّة، حيث اشتملت مسارات التعلّم في قطاع غزّة أثناء الحرب على مبادرات، وحملات، وملتقيات تعليميّة، يُنفّذها مبادرون بشكل تطوّعيّ: حيث ينفّذون أنشطة تعليميّة، ويقومون بأدوار تتجاوز الحدود التقليديّة للعمل المدرسيّ، من تخطيط وتحضير للدروس المتعارف عليها في السياق المدرسيّ المعتاد، إلى خلق مساحات عبر هذه التدخّلات، تساعد الطلّاب على الاستمرار في صناعة الأمل، وحماية حقّهم في التعليم.
وطالما قيل في التربية والعلم إنّ السؤال مفتاح المعرفة، فقد فتحت الحرب مجالًا للسؤال بكلّ سياقاته المتنوّعة، وإجابات متنوّعة أيضًا لتلك التساؤلات، حيث كان أبرز تلك التساؤلات: هل توجد فرصة للتعلّم في زمن الطوارئ والأزمات؟ فكانت الإجابة دومًا على لسان الطلبة أنفسهم بأنّه توجد فرصة للتعلّم، عندما نعيش اللحظة بكلّ ما تحتويها من تفاصيل وتراكمات، ونحوّلها إلى تعلّم مُعاش. وهذا ما يمكننا الاستناد عليه عبر تربية الأمل في الأزمنة الحرجة.