لكلّ مجتمع أهدافه العليا التي تترجم إلى فلسفة مجتمعيّة، ثمّ سياسة عامّة توجّهها الدولة، وتحدّد ملامحها، وتُضمّنها في أُطُر لعديدٍ من النظم السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والتعليميّة أيضًا؛ إذ يشكّل التعليم عقول شبابنا العربيّ، وقيمهم، وتوجّهاتهم، ومواقفهم السياسيّة، فتعمل الدولة على توجيه اختيار محتوى المنهج، وتنظيم طريقة تطبيق موضوعاته المُختارة.
تعدُّ مناهج التاريخ أحد تلك المناهج الدراسيّة التي تعنى بجوانب حياة المجتمع الإنسانيّ، وماضيه الذي يشكّل حاضره، ويسمح تدريسها بتنظيم المعلومات، ومعالجتها بطريقة منهجيّة، وإعداد المتعلّمين لفهم طبيعة المعرفة التاريخيّة، وكيفيّة بناء تلك المعرفة ونقلها إلى الأجيال المختلفة. كما ينمّي تدريس هذه المناهج الوعي التاريخيّ؛ أي فهم زمانيّة التجربة التاريخيّة، وربط الماضي، والحاضر، والمستقبل، من أجل إنتاج المعرفة التاريخيّة.
"دائمًا ما تثير قصص التاريخ الاهتمام؛ لأنّها تخبرنا عن أُناس حقيقيين لديهم أفكار، ومعتقدات، ناضلوا بجد لإحيائها، وشكّلوا ما نحن عليه الآن"
لماذا ندرس التاريخ؟
تساعدنا دراسة التاريخ على فهم الأسئلة المعقّدة والمعضلات، والتعامل معها من خلال دراسة كيفيّة تشكّل الماضي، ويتضح ذلك في ما يأتي:
- جعل الفرد أفضل للمجتمع بقدر ما يساعد على فهم العالم من حوله؛ إذ توفّر دراسته الأدلّة التي تساعد على معالجة العلل نفسها التي ابتليت بها المجتمعات عبر التاريخ. ومن المسلّم به أن دراسة التاريخ ساعدت على معرفة مدى ملاءمة معالجة قضايا معيّنة، لا سيّما القضايا الأخلاقيّة على المستوى المجتمعيّ. ومع ذلك، فإنّ التاريخ دائمًا ما يقدّم حلولًا لهذه القضايا والمشكلات.
- يُطلع الإنسان على حقيقة نفسه، ليس مجرّد خصائصه الشخصيّة التي تميّزه عن الآخرين، وإنّما يعرّف الإنسان طبيعته كإنسان، وما يمكنه فعله، وما يقدمه لبني جنسه. ولا يمكن ذلك إلّا من خلال معرفة الجهود المبذولة في الماضي، وبذلك تصبح قيمة تدريسه في السعي نحو التوصّل إلى الحقيقة.
- تساعد في بناء الأمم، والمحافظة على هُوِيَّتها وشخصيّتها؛ بل وعلى قوّتها، وقدرتها على النهوض، والاستمرار، فالتاريخ ذاكرة الأمّة، وبها تعي الأمّة ماضيها، وتفسّر حاضرها، وتستشرف مستقبلها.
المضمون المعرفيّ
"الشعب الذي لا يعرف تاريخه، وأصوله، وثقافته الماضية، يشبه الشجر بلا جذور". ماركوس غارفي
تمثّل المعرفة التاريخيّة شكلًا من أشكال الوعي الاجتماعيّ، وتقدّم تفسيرًا محدّدًا اجتماعيًّا للأحداث التي تسبّبت في تحوّلات: سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، والتي تعمل على تعزيز مهارات التفكير التاريخيّ الناقد لدى المتعلّمين، وزيادة فهمهم للعالم الاجتماعيّ، وأدوارهم فيه؛ فضلًا عن الموضوعات الاجتماعيّة والوطنيّة المتضمّنة التي تلائم الظروف المحلّيّة ذات الصلة بالحياة الواقعيّة خارج المدرسة.
المضمون الاجتماعيّ
يحوّل تدريسُ التاريخ الموضوعات، من مجرّد أحداث أو حقائق إلى أساس فكريّ وجدانيّ، تتحكّم فيه السياقات الاجتماعيّة التي تولّد الفِكَر من خلال الشعور. فِكَرٌ لا تظهر إلّا في التاريخ، وفي المواقف الاجتماعيّة، ولكنّها لا تتأسّس إلّا في وجدان المتعلّم، وبخلاف ذلك صارت سلسلة من الأحداث المتراصّة الخاوية من أي معنى.
تتمتّع مناهج التاريخ بطبيعة خاصّة تختلف عن المناهج الدراسيّة الأخرى، حيث إنّها تعتبر أكثر المناهج ارتباطًا بالمجتمع، كونها معنيّة بدراسة الإنسان، وتفاعله مع البيئة والعكس. فتمثّل التفاعل الديناميكيّ، وتركّز على علاقته بمجتمعه، ووطنه، وأرضه، وأمّته، وأيّ علاقة تصقل شخصيّته، وتدرّبه على الحياة الاجتماعيّة.
تعدّ دراسة المظاهر الاجتماعيّة والاقتصاديّة جزءًا لا يتجزّأ من اكتساب الفهم الدقيق لتاريخنا، فمن الصعب فهم التجربة التاريخيّة للأمّة من دون فهم النواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تشكّل عمقًا حيويًّا من التجربة البشريّة. فضلًا عن الجوانب الحياتيّة الأخرى، فهي تنمّي القدرة على الاستيعاب، والفهم، والانتقال من مرحلة التركيب إلى مرحلة الإضافة، والإبداع؛ إذ يكون التاريخ الحضريّ، وحياة الإنسان الهدفين الرئيسيّين لدراسة التاريخ، وتقديم صورة حقيقيّة لمسيرة الدولة.
كما تشمل موضوعات التاريخ في طيّاتها قيمًا مكتسبة، فهي تتضمّن الولاء، والانتماء، والاعتزاز بقيمنا الأصيلة، وحبّ الوطن، والدفاع عن الأرض، والعرض، والبطولات العربيّة، وتاريخ العلماء والمفكّرين، واحترام رموزنا الوطنيّة، وآثارنا، وحضارتنا الخالدة. تتكامل تلك القيم مع المعرفة التاريخيّة، والمهارات، والمواقف التي يمرّ فيها المتعلّم، وتشكّل لديه شعوره بالانتماء؛ فيتحمّل مسؤوليّته عن التزامه بأفعاله، والتي تنصبّ في مصلحة المجتمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، ممّا يحافظ على استقرار المجتمع وتوازنه.
المضمون السياسيّ
"من يفشل في التعلم من التاريخ، يُحكم عليه بتكراره". وينستون تشرتشل
تختصّ مناهج التاريخ بسرد الأحداث وتحليلها، والفِكَر، والحركات السياسيّة للدولة. وتركّز على الأحداث القوميّة، والعمليّات السياسيّة، ودراسة الاختلافات الأيديولوجيا كقوّة للتغيير التاريخيّ؛ فضلًا عن دراسة القادة وأعمالهم. فمن المألوف أنّ محتوى مناهج التاريخ يُصاغ في إطار أيديولوجيّ، ويظهر ذلك جليًّا في المحتوى المتضمّن في المنهج؛ إذ تتجاهل الدولة الإشارة إلى فترة حاكم معيّن، أو قضيّة سياسيّة معنيّة، والتي من شأنها، في وجهة نظر المسؤولين، أن تؤثّر بالسلب في المتعلّمين. لا بدّ أن تُدرّس الحقائق الصحيحة عن الماضي، مراعاة الحقائق التي يجب تدريسها في مرحلة عمريّة معنيّة، والأخرى التي يتم طمسها، والحرص على ألّا يعرف بها الجيل الحاضر.
كما يوفّر تدريس التاريخ إجابات لفهم الحاضر بشكل نقديّ، وبأن المعرفة التاريخيّة النقديّة، وفهم النظم السياسيّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة يتقاطعان مع ثقافة الديمقراطيّة اللازمة للمواطنة النشطة؛ فالتفاعل بين المعرفة التاريخيّة، والمعرفة الديمقراطيّة يسمح للمتعلّم بإتقان معرفة التاريخ، وفي النهاية ممارسة التاريخ نفسه، فيصبح قادرًا على فهم العالم الذي يعيش فيه، وتعزيز قدراته للمشاركة بشكل أكثر فاعليّة في مجتمع ديمقراطيّ.
نهاية القول
إنّ المعرفة بتاريخنا تتيح لنا الشعور بالارتباط بالمكان، والزمان، والمجتمع؛ لذا لا بد من الانتقاء السليم للموضوعات التي يجب تضمينها في منهج التاريخ، وتجنّب الحشو والتكرار الذي من شأنهما أن يدمَرا الآليّات الاجتماعيّة التي تربط التجربة المعاصرة للمتعلّمين بتجربة الأجيال الماضية، الأمر الذي يتسبّب في الانفصال عنها، فيفقدون قدرتهم على التمتّع بحقوقهم الاجتماعيّة والسياسيّة كمواطنين؛ لذا على مصمّمي مناهج التاريخ الاهتمام بها، ومواكبة التغيّرات الحديثة في إعدادها.