بين الدمار والأمل: حوار مع معلّمة حول استراتيجيّات التعليم والابتكارات والتحدّيات في ظلّ الحرب
بين الدمار والأمل: حوار مع معلّمة حول استراتيجيّات التعليم والابتكارات والتحدّيات في ظلّ الحرب
2024/09/18
سهير ابن سالم | باحثة في التاريخ ومعلمة لمادة الأفراد والمجتمعات بالأكاديمية العربية الدولية بالدوحة/تونس

في ظلّ ما تعيشه العديد من البلدان، مثل اليمن وليبيا والسودان ولبنان وفلسطين، ولا سيّما قطاع غزّة، من حروب ونزاعات مسلّحة، أصبح التعليم أداةً حيويّة ليس لنقل المعرفة وحسب، بل للحفاظ على الأمل واستدامة المجتمعات أيضًا. فرضت هذه الظروف تحدّيات كبرى، تراوحت بين توفير بيئة تعليميّة آمنة وصحّيّة إلى التعامل مع الصدمات النفسيّة التي يتعرّض إليها الطلّاب.

من هُنا، أجريتُ حوارًا معمّقًا مع هيا أبو ميري من دير البلح في قطاع غزّة، أستاذة اللغة العربيّة للمراحل الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة، وهي من اللواتي خضن تجربة التعليم في ظلّ الحروب، وما زلن يواصلن العمل حتّى اليوم. الهدف من هذا الحوار نقل التجارب الحيّة بدقة، إيمانًا بأهمّيّة فهم تأثير هذه الظروف في العمليّة التعليميّة وكيفيّة التكيّف معها بعمق.

 

1. أمام المخاطر اليوميّة والتحدّيات الكبرى التي يواجهها المعلّم، ما الدافع الشخصيّ الذي قادكِ إلى الاستمرار في التعليم في ظلّ هذه الظروف؟

كانت دوافع هذه المبادرة شخصيّة في البداية، حيث بدأت كمبادرة ذاتيّة. لكن ما أثر فيّ بشكل أكبر خلال فترة الحرب، حين لم يكن هناك انقطاع للتيار الكهربائيّ بعد، كان رؤية الأطفال يتجمّعون في بيت العائلة لقراءة الأخبار حول أماكن القصف. لاحظتُ حينها أنّ الأطفال كانوا يتسابقون لقراءة النشرة، وأثارت انتباهي تراجعات في مستوى قراءتهم الحروف والكلمات.

من هنا بدأت الفكرة: لماذا لا أواصل تعليمهم؟ خصوصًا وأنّ السنة الدراسيّة قد تعطّلت تقريبًا، إذ لم تتخطَّ فترة دراستهم شهرًا واحدًا فقط. بدأتُ بتدريس أطفال الأقارب في البداية، ثمّ توسّعت المبادرة لتشمل أطفال الحيّ بأكمله بعدما أصبحوا يتحدّثون في ما بينهم عن التجربة.

 

2. ما الاستراتيجيّات التي تتّبعينها كمعلّمة لمواجهة التحدّيات التي تفرضها الحروب؟

حرصتُ على تنويع الأنشطة التعليميّة، وأن تكون مرنة تتناسب واحتياجات الطلّاب، مع محاولة تكييفها وفقًا للموادّ المتاحة لدينا. على سبيل المثال، في مادّة اللغة العربيّة، اعتمدت على التعليم التشاركيّ حتّى لا يشعر الطالب بأنّه يعيش بمعزل عن الآخرين، وشجّعتهُ على المشاركة من خلال كتابة القصص. طلبت من الطلّاب كتابة قصص تعبّر عن مواقف شخصيّة مرّوا بها، أو تجارب أثّرت فيهم ومشاركتها مع البقيّة. كما أدمجتُ الأنشطة التي تساعد في تخفيف التوتّر، مثل الأنشطة الفنّيّة والتعبيريّة، مع الحرص على التحدّث مع الطلبة عن مشاعرهم والتحدّيات التي يواجهونها، مثل نشاط الرسم الذي ساعدهم على التعبير عمّا عاشوه وما يعيشونه. أردت في استراتيجيّات التعليم، الجمع بين الجانبين الأكاديميّ والنفسيّ، وجعل هذه الأنشطة متنفّسًا للطلاب. لذلك، كنت أؤكّد عليهم أنّ وجودهم هنا أوّلًا للترفيه، ثمّ للتعليم.

في بعض الأحيان، كان الطلّاب أنفسهم يقترحون الأنشطة. على سبيل المثال، اقترح أحد الطلّاب من خانيونس، كان يحفظ أسماء جميع الشوارع في مدينته، نشاطًا يُدعى "لعبة الكلمات"، إذ يقوم كلّ طالب بتسمية أكبر عدد من الشوارع الموجودة في مدينته، وهو نشاط يندرج ضمن التعليم التحرّريّ القائم على الوعي والانتماء التاريخيّ للوطن.

 

3. ذكرتِ التعليم التحرّريّ: ما تعريفك له؟

التعليم التحرّريّ منهج تربويّ لا يقوم على التلقين، بل على الفهم وتعزيز الوعي والفكر النقديّ لدى الطلّاب لربطهم بواقعهم الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ، والعمل على التغيير مستقبلًا.

 

4. كيف يمكن تطبيق هذا المنهج التحرّريّ في سياق ما يحصل في فلسطين، ولا سيّما في غزّة، اليوم؟

كان التعليم في ظلّ هذه الأوضاع ينصبّ حول القضيّة الفلسطينيّة، والوضع الذي يعايشهُ الفلسطينيّون. كنتُ أركّز على طرح الأسئلة النقديّة لتحفيز الطلّاب على التفكير، وربط ما يتعلّمونه بما يحدث اليوم. وقد أثمرت هذه الاستراتيجيّة نتائج إيجابيّة، إذ بدأ الطلّاب بطرح أسئلة عميقة وجادّة حتّى في ما بينهم وبشكل جماعيّ، حول قضايا مثل الاحتلال، والمقارنة بين الدول العربيّة، وأسباب الاحتلال. كنت أسعى لتنمية شعور الوطنيّة والانتماء إلى القضيّة الفلسطينيّة، وهو شعور كان كلّ طالب يحمله ويعبّر عنه بطريقته الخاصّة.

من بين الاستراتيجيّات التي اعتمدتها أيضًا كانت تغيير بعض الدروس، أو تكييفها مع الواقع الذي يعيشونه في ظلّ الحرب. على سبيل المثال، بدلًا من درس حول الآثار في دولة معيّنة للصفّ الثاني، طلبت من كلّ طالب إجراء مقابلة مع سكّان منطقته (حيّهِ) للحديث عن الآثار الموجودة في تلك المنطقة، مثل دير البلح أو خانيونس، حيث تحوّل أغلبها إلى أماكن نزوح. كانت أعمال الطلّاب متنوّعة، وأدّت إلى تعميق معرفتهم بمدينتهم وتاريخها، ووعيهم بأهمّيّة مدنهم. كما أنّ الأمثلة التي كنت أطرحها أصبحت مرتبطة بشكل مباشر بما يحدث في غزّة، سواء حول العيش في الخيم أو النزوح، أو الصفات التي علينا التمتّع بها لمواجهة هذه التحدّيات.

 

5. كيف يتمّ دمج التكنولوجيا في التعليم خلال الأوقات الصعبة مثل الحروب؟

التكنولوجيا، في ظلّ هذه الأوضاع وغياب الوسائل التقليديّة للتعليم، كانت تمثّل البديل التعليميّ، سواء في التواصل مع الطلّاب عبر واتسآب، أو عبر الإنترنت الذي يتيح لنا توفير خيارات تعليميّة أكثر تنوّعًا. كنتُ أشتري باقات إنترنت خاصّة لاستخدامها في تحميل فيديوهات تعليميّة، والدخول إلى المنصّات التعليميّة التي يمكن الاعتماد عليها في التدريس، كما كنتُ أسجّل الدروس لعرضها في أيّ وقت. بالإضافة إلى ذلك، اعتمدت على استخدام السمّاعات، ما ساعد في تحسين جودة التعليم لدى العديد من الطلّاب. ومع ذلك، لم يكن هذا الامتياز متاحًا للجميع، بسبب الانقطاع المتكرّر للإنترنت، وعدم توفّر الأجهزة بشكل كافٍ.

 

6. ما الاستراتيجيّات التي تتّبعها للتواصل الفعّال مع الطلّاب الذين يعانون آثارًا نفسيّة بسبب الحرب؟

العلاقة توطّدت، وأصبحت أكثر ثقة وأخذت بعدًا إنسانيًّا، لأنّنا نتقاسم الظروف والتحدّيات والتخوّفات نفسها. المفارقة الجميلة أنّ التدريس خارج جدران المدرسة أصبح يمثّل لهم الأمان. أحيانًا، عندما نسمع انفجارًا أو قصفًا، كنت أحاول احتواء خوفهم بإشعارهم أنّهم في أمان، وأنّنا هنا لنتعلّم، وأن يركّزوا على التعلّم بدلًا من الانتباه لأصوات القصف. كنت أيضًا أتعامل مع الوضع بتشغيل موسيقى هادئة لتعزيز التركيز، وأقوم معهم بنشاط ترفيهيّ. على سبيل المثال، كنت أطلب منهم إغماض أعينهم، وتخيّل أنّ الحرب قد انتهت، ثمّ أسألهم: "ما أوّل شيء تقومون به؟" فكانت الإجابة من كلّ واحد منهم: "أشوف غرفتي، أشوف ألعابي، أرجع لبيتي."

 

7. كيف أثّرت تجاربك الشخصيّة في ظلّ الحرب في أسلوبك التعليميّ، وطريقة تعاملك مع الطلّاب؟

مررت بظروف صعبة للغاية، حيث كانت العمليّة التعليميّة تفتقر إلى المستلزمات الأساسيّة للطلّاب. لم يكن المعلّم بمعزل عن الأحداث، بل في قلبها. لذا، كان جهده مضاعفًا في ظلّ هذه الأوضاع. تأثّرتُ بشدة بقصّص الطلّاب، ففي بعض الأحيان، كان الطلّاب يأتون إلى المدرسة من دون أحذية، وهو ما كان يؤثّر في نفسي بشكل عميق. كنت أشعر بالقلق المستمرّ عليهم، وعلى مصيرهم أثناء طريقهم إلى بيوتهم وخيمهم. ولكنّني حرصت دائمًا على ألّا أظهر لهم هذا الخوف. على الرغم من الشعور بالتعب وأحيانًا اليأس، كنت أستعيد عزيمتي بسرعة وأُذكّر نفسي بأنّ هذه المهمّة أمانة، عليّ أداؤها بأفضل ما يمكن. كنت مقتنعة بضرورة عيش كلّ يوم كما هو، والتركيز على تقديم الدعم والتعليم لهؤلاء الأطفال في ظلّ هذه الظروف الصعبة، لأنّني لم أكن معلّمة وحسب، بل كنتُ جزءًا من حياتهم اليوميّة. لذا، فإنّ للمعلّم في ظلّ هذه الأوضاع دورًا تربويًّا ونفسيًّا أيضًا.

 

8. هل يوجد دعم حكوميّ أو دوليّ على المستوى الأكاديميّ أو النفسيّ؟

كل ما أقوم به هو من مجهودي الخاصّ، ولا يوجد أيّ دعم حكوميّ أو دوليّ. الدعم في غزّة محدود، والموارد شحيحة، حيث تدعم كلّ مؤسّسة دائرتها فقط. ولا سيّما في مجال الدعم النفسيّ، الذي لم يتوفّر مع أنّه أولويّة في ظلّ الظروف التي نعيشها. الأطفال الذين عايشوا هذه الظروف مرّوا بتجارب قاسيّة جدًّا، ما خلّف لديهم مشاعر غضب وحقد وكبت كبيرة. لذلك، أرى أنّهم في حاجة ملحّة لعلاج نفسيّ.

 

9. هل هناك قصص نجاح شخصيّة أو تجارب مؤثّرة ترغبين بمشاركتها؟

تأثرت بالعديد من المواقف خلال تجربتي، خصوصًا قصص الطلّاب التي تركت أثرًا عميقًا في نفسي. لكن أكثر ما أثر فيّ كان عودة بعض الطلاب إلى مناطقهم، حيث شعرت بفراغ كبير بعد مغادرتهم. من بين القصص المؤثّرة، كانت هناك طالبة أظهرت إبداعًا لافتًا في الكتابة باللغة العربيّة. عندما طلبت منها قراءة قصّة، أخبرتني أنّها تمتلك أكثر من قصّة، إذ كانت تكتب بانتظام وكأنّها تجمع "محصولًا" أسبوعيًّا أو شهريًّا من القصص حول كلّ ما يحدث معها. كانت تقوم بتغيير أسماء الشخصيّات إلى أسماء مستعارة. وما أثار انتباهي أنّها كانت توثّق هذه القصص بتواريخ محدّدة. وقالت لي في نهاية الحديث: "سأحتفظ بهذا الدفتر معي دائمًا".

 

في الختام، تُبرِزُ تجربة التدريس في ظلّ الحرب، كما سردتها المعلّمة هيا أبو ميري، الصعوبات الجسيمة التي يواجهها كل من المعلّمين والطلّاب على حدّ سواء. وتظهر هذه التجربة كيف أن تأثير الحرب يتجاوز الدمار المادّيّ للبنية التحتيّة التعليميّة، ليصل إلى التأثير العميق في النفوس والعقول، ما يترك آثارًا نفسيّة واجتماعيّة طويلة الأمد. ومع ذلك، تجسّد تجربة هذه المعلمة أيضًا مظاهر الإصرار والمرونة والقوّة التي يتحلّى بها هؤلاء الذين يواصلون مهمّة تعليم الأطفال مع الظروف القاسية.

 

المراجع:

مقابلة مع الأستاذة هيا أبو ميري وهو أستاذة طلاب لمراحل الابتدائيّ والثانويّ، أجريت هذه المقابلة يوم 22 آب/ أغسطس الساعة الخامسة بتوقيت الدوحة.