النهضة التعليميّة اليابانيّة الجديدة: تحوّل نموذجيّ في تعليم العلوم الإنسانيّة
النهضة التعليميّة اليابانيّة الجديدة: تحوّل نموذجيّ في تعليم العلوم الإنسانيّة
حبيب البدوي | أستاذ في كلية التربية - الجامعة اللبنانية-لبنان

في مبادرة جريئة وبعيدة النظر إلى تنمية التفكير النقديّ وتشكيل مواطنين متكاملين، شرعت اليابان في رحلة تحويليّة في مجال تعليم العلوم الإنسانيّة  ستكون قدوة على الصعيد العالميّ. يبشِّر هذا المنهج الدراسيّ الرائد، والذي يرتكِز إلى محورين، هما "ريكيشي سوغو" (rekishi sōgō - التاريخ الشامل) و"تشيري سوغو" (chiri sōgō - الجغرافيا الشاملة)، بتحوّل جذريّ عن أساليب التعلّم التقليديّة القائمة على الحفظ والبصم وفق الطريقة العربيّة، والتي غالبًا ما تعرّضت للنقد الجارح لبدائيّتها في التعليم. وطبقًا لهذا النموذج المتطوّر، يتوجّه الجسم الطلّابي نحو فهم أدقّ وأكمل لعالمنا المعقّد (Moniz et al., 2021).

 

المقاربة العلميّة الجديدة: نسيج شامل للعلوم الإنسانيّة 

يطمح هذا المنهج الدراسيّ الرؤيويّ في العلوم الإنسانيّة إلى إكساب الطلّاب منظورًا عالميًّا متطوّرًا، وذلك بالجمع بسلاسة بين التخصّصات المتنوّعة، مثل التاريخ والجغرافيا والأخلاق والتربية والعلوم الاجتماعيّة. يتماشى هذا النهج المتقدِّم مع الاتّجاهات التعليميّة العالميّة الحديثة، معترفًا بالدور المحوريّ للعلوم الإنسانيّة في تشكيل أفراد ذوي تفكير نقديّ يجعلهم قادرين على فهم التعقيدات المتشابكة لعالمنا سريع التغيّر (Garza, 2019).

بتعزيز نظرة شاملة إلى العالم، يهدف المنهج إلى تجاوز حدود التعلّم المجزّأ؛ ممّا يمكِّن الطلّاب من إدراك الترابطات المعقّدة التي تشكِّل مجتمعنا العالميّ. يتوافق هذا النهج مع نظريّة البنائيّة في التعليم (Theory of Constructivism in Education)، والتي تفترض أنّ المتعلّمين يبنون المعرفة بنشاط، بدمج المعلومات الجديدة مع فهمهم وخبراتهم الحاليّة (Piaget, 1976). في هذا السياق، يعمل منهج العلوم الإنسانيّة الشامل رافعةً للطلّاب، لبناء إدراك أعقد وأدقّ للعالم المحيط بهم، وتهيّئهم باكرًا للحياة العمليّة. 

 

الآليّة المقترحة: تناغم التعاون بين التخصّصات 

في جوهره التقليديّ، ينظّم المنهج الدراسيّ تفاعلًا متطوّرًا بين المناهج متعدّدة التخصّصات، والعابرة للتخصّصات في التعليم. وهنا، بدلًا من حصر الموادّ في صوامع معزولة عن المعرفة، يشجِّع المفهوم الجديد الطلّاب على بناء جسور ذات مغزى بين مجالات الدراسة المتباينة. فالأحداث التاريخيّة، على سبيل المثال، لم تعد تُدرَس بعدسة ضيّقة للتواريخ والشخصيّات، بل تُستكشَف بالمنظور الغنيّ ومتعدّد الأوجه للسياقات الجغرافيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. لذا، لا يعمّق هذا النهج الفهم الإدراكيّ فحسب، بل ينمّي كذلك عقليّة أكثر مرونة وقابليّة للتكيّف، وهي ضروريّة لمواجهة التحدّيات المعقّدة للقرن الواحد والعشرين.  

هذا الطرح اليابانيّ الحديث يتماشى مع مفهوم نظريّة المرونة المعرفيّة (Cognitive Flexibility Theory)، والتي تؤكِّد على أهمّيّة تطوير الخبرة التكيّفيّة في المجالات المعقّدة وغير المنظّمة (Spiro et al., 1988)، وذلك بتعريض الطلّاب لوجهات نظر متعدّدة، وتشجيعهم على إنشاء روابط عبر التخصّصات المحدودة التي يدرسونها. وبذلك، يعزِّز المنهج تطوير هياكل معرفيّة مرنة يمكن تطبيقها على المواقف الجديدة. 

تشمل الميزات الرئيسة لهذه السيمفونيّة التربويّة المبتكرة ما يلي: 

استراتيجيّات التعلّم النشط الديناميكيّة

يضفي المنهج الجديد حيويّة على عمليّة التعلّم بمنهجيّات جذّابة، مثل دراسات الحالة الحاليّة، وتمارين لعب الأدوار المثيرة للتفكير، والمناقشات النشطة، والتعلّم الطموح القائم على المشاريع. تشعل هذه الأساليب الديناميكيّة مشاركة أعمق مع المادّة، وتعزِّز التطبيق العمليّ للمهارات التحليليّة، وتغذّي الشغف بالتعلّم مدى الحياة (2012 ,Khandaghi & Pakmehr). وبالتالي، تتماشى المقاربة اليابانيّة الجديدة مع نظريّة التعلّم التجريبيّ Theory of Experiential Learning، والتي تفترض أنّ المعرفة تنشأ بتحويل الخبرة. 

فهم الموضوعات الشامل

المزج الفنّيّ بين عناصر الفلسفة والأخلاق والتاريخ والعلوم الاجتماعيّة، يتجاوز المنهج التعليميّ الجديد الحدود الأكاديميّة التقليديّة. يؤكِّد المشرِّع اليابانيّ على فهم التخصّصات، ليس كمجالات تقنيّة معزولة، بل كمساعٍ اجتماعيّة وإنسانيّة غنيّة ومترابطة، تشكِّل فهمنا للعالم ومكاننا فيه  (Moniz et al., 2021). يتوافق هذا النهج مع نظريّة التفكير النظميّ (Theory Systems Thinking)، والتي تؤكِّد على أهمّيّة فهم الترابطات بين مختلف أجزاء النظام، بدلًا من دراستها بمعزل عن بعضها (Senge, 1990).

منظور التعلّم العالميّ

يعرّض الجانبُ الدوليّ للمنهج الطلّابَ لنسيج نابض بالحياة من التقاليد الثقافيّة والفكريّة المتنوّعة في مختلف أصقاع الكرة الأرضيّة. يعزِّز هذا التعرّض كثيرًا قدرتهم على التفكير النقديّ في القضايا العالميّة المعقّدة؛ ممّا يعزِّز الشعور بالمواطنة العالميّة، ويعدّهم لأدوار قياديّة في عالم متزايد الترابط (Garza, 2019). وهذا يتماشى مع نظريّة الذكاء الثقافيّ Theory of Cultural Intelligence التي تؤكِّد على أهمّيّة تطوير القدرة على العمل بفعّاليّة في البيئات المتنوّعة ثقافيًّا.

 

الأسس النظريّة والابتكارات التربويّة: تطبيق عمليّ للمنهج اليابانيّ المستحدث في عالمنا العربيّ

يتميّز المنهج اليابانيّ المستحدث بشموليّته وقدرته على دمج النظريّات التعليميّة المتقدّمة مع الابتكارات التربويّة العمليّة. هذا المنهج لا يقتصر على النظريّات، بل يطبّقها بطرق تفاعليّة تتيح للطلّاب تجربة التعلّم بطرق مبتكرة وفعّالة. 

 

تطبيق نظريّة الذكاءات المتعدّدة في الفصول الدراسيّة

في المدارس اليابانيّة، تُصمَّم الدروس والأنشطة تصميمًا يُعزِّز جميع أنواع الذكاءات التي أشار إليها هوارد غاردنر. على سبيل المثال، في درس واحد حول البيئة: 

  • - تُجرى الدروس التطبيقيّة في الهواء الطلق، ووفق أنشطة رياضيّة، لتعزيز الذكاء الجسديّ - الحركيّ. 
  • - تُدرَس العلاقات بين الكائنات الحيّة في الطبيعة لتعزيز الذكاء الطبيعيّ. 
  • - تُدمج الأنشطة الموسيقيّة لتعزيز الذكاء الموسيقيّ. 
  • - تُشجَّع المناقشات الجماعيّة والعمل الجماعيّ لتعزيز الذكاء الشخصيّ - الخارجيّ. 
  • - تُقدَّم مسائل رياضيّة حول حساب نسبة التلوّث لتعزيز الذكاء المنطقيّ - الرياضيّ. 
  • - تُستخدَم الخرائط والأعمال الفنّيّة لتعزيز الذكاء المكانيّ. 
  • - تُنظَّم أنشطة قراءة وكتابة لتعزيز الذكاء اللغويّ. 
  • - يُخصَّص وقت للتأمّل والتفكير الذاتيّ لتعزيز الذكاء الشخصيّ - الداخليّ. 

يسمح هذا التنوّع في الأنشطة للطلّاب باستخدام نقاط قوّتهم، بينما يعملون على تحسين المجالات التي قد تكون أضعف لديهم. 

 

تطبيق التعلّم التحويليّ في المناهج الدراسيّة

تحتوي البرامج الدراسيّة على وحدات تتيح للطلّاب خوض تجارب تعلّم تحويليّة. على سبيل المثال، تُنظَّم ورش عمل تشمل موضوعات ذات صلة بحياة الطلّاب اليوميّة، أو قضايا مجتمعيّة كبيرة. خلال هذه الورش، يُشجَّع الطلّاب على التفكير النقديّ والتحليل بعرض وجهات نظر مختلفة؛ ممّا يؤدّي إلى تغييرات عميقة في طريقة فهمهم أنفسَهم والعالم من حولهم. 

 

تطبيق التعلّم القائم على حلّ المشكلات (PBL)

يتبنّى المنهج اليابانيّ المستحدث نهج التعلّم القائم على حلّ المشكلات بفعّاليّة. تُقدَّم مشكلات حقيقيّة معقّدة للطلّاب، يتطلّب حلّها معرفة متعدّدة التخصّصات. على سبيل المثال، قد يُكلَّف الطلّاب بمشروع لحلّ مشكلة إدارة الموارد المائيّة في مجتمعهم المحلّيّ. خلال هذا المشروع: 

  • - يجمع الطلّاب بيانات عن استهلاك المياه الحاليّ. 
  • - يتعلّمون عن تقنيّات توفير المياه وطرق إدارة الموارد. 
  • - يتعاونون مع زملائهم في تطوير حلول واقعيّة. 
  • - يقدّمون نتائجهم وتوصيّاتهم للمجتمع المحلّيّ أو المسؤولين. 

يعزِّز هذا النهج مهارات التفكير النقديّ وحلّ المشكلات والتعاون بين الطلّاب؛ ممّا يجهّزهم لمواجهة تحدّيات العالم الحقيقيّ مواجهة فعّالة. 

 

النتائج الأوّليّة الواعدة: بذور التحوّل القادم 

في حين أنّ الدراسات طويلة الأمد ذات الرؤية الشاملة لا تزال جارية الآن لتقييم الأثر المستقبليّ في المجتمع الطلّابيّ تقييمًا كاملًا، إذ إنّ الملاحظات الأوّليّة ترسم صورة مشجِّعة لنتائج واعدة، أهمّها: 

الاستعداد العلميّ للتحديّات المستقبليّة

بتوفير تعليم واسع ومتعدّد التخصّصات، يهدف المنهج الجديد إلى تزويد الطلّاب بمجموعة أدوات متنوّعة وضروريّة لمواجهة تحدّيات القرن الواحد والعشرين متعدّدة الأوجه. يمكّن هذا الإعداد الشامل الطلّاب من التكيّف مع المشاهد العالميّة سريعة التغيّر، والظهور كأشخاص تحليليّين مبتكرين (Halperin, 2010).  تتماشى هذه النتيجة مع مفهوم مهارات القرن الواحد والعشرين الذي يؤكِّد على أهمّيّة تطوير مهارات التفكير النقديّ والإبداع والتعاون والثقافة الرقميّة. 

تعزيز التفكير النقديّ

يعمل النهج متعدّد التخصّصات على تعزيز مهارات تحليليّة متطوّرة بين الطلّاب؛ ممّا يمكّنهم من تشريح القضايا المعقّدة وفحصها بعدسات متعدّدة، وفق مقاربة شخصيّة تتميّز بدقّة ملحوظة. تعدّ هذه القدرة التحليليّة المعزَّزة الطلّابَ لمعالجة المشكلات متعدّدة الأوجه بإبداع وبصيرة، وهو الهدف الرئيس للمشرِّع اليابانيّ (Jones & Verghese, 2003). يتماشى تطوير هذه المهارات مع أهداف التفكير عالي الرتبة في تصنيف بلوم المنقّح Bloom Revised Taxonomy، والذي يؤكِّد على أهمّيّة التحليل والتقييم والإبداع في عمليّة التعلّم. 

الكفاءة الثقافيّة

يشجِّع التعرّف إلى وجهات نظر متنوّعة على تنمية التعاطف والفهم الثقافيّ بين الطلّاب؛ ممّا يزوِّدهم بمهارات حاسمة للازدهار في عالمنا المتزايد الترابط. لا تفيد هذه الكفاءة الثقافيّة المعزَّزة النموّ الشخصيّ فحسب، بل تسهِم كذلك في تفهّم الآخر تفهّمًا أكثر انسجامًا (Jones & Verghese, 2003). تتوافق هذه النتيجة مع مفهوم الكفاءة بين الثقافات Concept of Intercultural Competence، والذي يؤكِّد على أهمّيّة تطوير القدرة على التواصل بفعّاليّة وبطريقة مناسبة في المواقف المختلفة. 

الممارسة التأمليّة

يغذِّي المنهج الحديث ثقافة التأمّل العميق، مشجِّعًا الطلّاب على التفكير في تعلّمهم وتطبيقاته في العالم الحقيقيّ. يعزِّز هذا النهج التأمّليّ مشاركة أعمق وأكثر معنى مع المادّة؛ ممّا يعزِّز الشعور بالمسؤوليّة الشخصيّة والوعي الأخلاقيّ (Friedman, 2002). يتوافق ذلك مع مفهوم الممارس التأمّليّ لشون الذي يؤكِّد على أهمّيّة التأمّل في الممارسة المهنيّة والتعلّم. 

 

التغلّب على التحدّيات ورسم الاتّجاهات المستقبليّة 

تنفيذ مثل هذا المنهج الشامل لا يخلو من العقبات. تشمل هذه المقاومة المحتملة قضايا تخصيص الموارد في نظام تعليميّ مرهِق، مع الحاجة إلى تدريب متخصّص للمعلّمين، لتقديم هذا المنهج متعدِّد الأوجه بفعّاليّة (Evans & Macnaughton, 2006). ومع ذلك، يُنظَر إلى الفوائد المحتملة لإيجاد جيل جديد من الطلّاب اليابانيّين، يكونون أكثر انخراطًا وتفكيرًا ومسؤوليّة، بأنّها إيجابيّات تفوق كثيرًا العقبات السلبيّة المتوقَّعة. 

تتطلّب معالجة هذه التحدّيات تصميمًا منهجيًّا لإصلاح التعليم. قد يشمل ذلك إعادة التفكير في برامج تعليم الأساتذة، لإعداد المعلّمين إعدادًا أفضل للتدريس متعدّد التخصّصات. كما يمكِّن تطوير طرق تقييم جديدة قياسَ المهارات المعقَّدة التي يعزِّزها المنهج بفعّاليّة، بالإضافة إلى إنشاء هياكل داعمة داخل المدارس لتسهيل التعاون عبر التخصّصات. 

* * *

أخيرًا، مع تكشّف هذه التجربة التعليميّة الحديثة في اليابان، قد يعمل النهج المبتكر لطوكيو منارةً للدول الأخرى التي تسعى إلى إحياء تعليم العلوم الإنسانيّة لديها. يمكن أن يحفِّز نجاح هذا النموذج تحوّلًا عالميًّا نحو نماذج تعليميّة أكمل وأشمل. وهنا، يُطرَح السؤال الجوهريّ: هل سيستفيد لبنان والعالم العربيّ من هذه المنهجيّة التعليميّة الجديدة؟  

 

المراجع

- Evans, H. M., & Macnaughton, R. J. (2006). A "core curriculum" for the medical humanities? Medical Humanities. 32(2). 65-66. 

- Friedman, L. D. (2002). The precarious position of the medical humanities in the medical school curriculum. Academic Medicine. 77(4). 320-322. 

- Garza, A. d. l. (2019). Internationalizing the curriculum for STEAM (STEM + Arts and Humanities): From intercultural competence to cultural humility. Journal of Studies in International Education, 25(2). 123-135. 

- Halperin, E. C. (2010). Preserving the humanities in medical education. Medical Teacher. 32(1). 76-79. 

- Jones, T., & Verghese, A. (2003). On becoming a humanities curriculum: The Center for Medical Humanities and Ethics at the University of Texas Health Science Center at San Antonio. Academic Medicine. 78(10). 1010-1014. 

- Khandaghi, M. A., & Pakmehr, H. (2012). Critical thinking disposition: A neglected loop of humanities curriculum in higher education. Cypriot Journal of Educational Sciences. 7(1). 1-13. 

- Moniz, T., Golafshani, M., Gaspar, C. M., Adams, N. E., Haidet, P., Sukhera, J., Volpe, R. L., de Boer, C., & Lingard, L. (2021). How are the arts and humanities used in medical education? Results of a scoping review. Academic Medicine. 96 (8). 1213-1222.