منذ أن بدأت الثورة التكنولوجيّة بالاتّساع والتمدّد في العالم، ونحن نسمع عن توظيف التكنولوجيا في التعليم، ورقمنة التعليم، والتعليم المدمج، والتعليم الإلكترونيّ، وغيرها من التسميات العديدة التي تصبّ في الموضوع ذاته، وشهدت المجتمعات كثيرًا من الجدل المستمرّ حول جدوى توظيف التكنولوجيا في العمليّة التعليميّة بين المؤيّدين والمعارضين.
تلاشى الجدل والتخوّف والتردّد فجأةً مع انتشار جائحة كورونا، فوجدنا أنفسنا نتّجه نحو التقنية وتوظيف التكنولوجيا في التعليم، وقد بدأ ذلك بمبادرات شخصيّة من المعلّمين والتربويّين، إلى أن وصلنا إلى سياسات تربويّة أقرّتها وزارات التعليم والحكومات لضمان استمرار العمليّة التعليميّة التربويّة، ولتقليل أثر الجائحة على التعليم قدر الإمكان. الهدف من هذا المقال هو الإشارة إلى دور المعلّم في عمليّة الانتقال من التعليم التقليديّ إلى التعليم خلال الوضع الجديد، والبحث في المطلوب من المعلّم من أدوار جديدة، لنستطيع أن نقول: إنّنا تأثّرنا إيجابًا بالجائحة في مجال تطوير التعليم.
المعيقات والصعوبات
لا يخفى على أحد أنّه ثمّة عدد من المعيقات والصعوبات التي قد توصف أحيانًا بكونها تحديّات في توظيف التكنولوجيا في التعليم، وهي تندرج في محورين:
- التحدّيات البشريّة: أنا أعدّها من أهمّ التحدّيات، وذلك لارتباطها بقناعة المعلّم والطواقم المساندة له في ضرورة استخدام التقنية، إذ ما زالت نسبة لا بأس بها من المعلّمين تتخوّف من استخدام التكنولوجيا في التعليم، وهذا يحتاج من راسمي السياسات عمل دراسات مسحيّة تحدّد هذه النسبة، وأسباب تخوّفها من أجل العمل على سدّ الفجوات.
- التحدّيات الفنيّة: تتعلّق هذه التحدّيات بإمكانيّة توفير الدعم الفنّيّ للمعلّمين في مجال التدريب على استخدام البرامج والتطبيقات التكنولوجيّة. إنّنا نتحدّث هنا عن تدريب عالي الجودة يساهم أوّلًا في رفع الاتّجاهات نحو التقنية، وما يترتّب عن ذلك من تطوير الكفايات والمهارات في هذا الموضوع، إذ إنّ من الضرورة بمكان استخدام الاستراتيجيّات التدريبيّة والتعليميّة التي تناسب التكنولوجيا، فلا يمكن التعامل مع التكنولوجيا على أنّها وسط ناقل للمعرفة وللمحتوى فقط، ولا يمكن كذلك اتّباع كلّ الاستراتيجيّات والطرائق الحضوريّة في التعليم الإلكترونيّ. لذلك، فإنّ المطلوب وضع الخطط المتينة التي تكون مخرجاتها واضحة المعالم: ماذا نريد من المعلم أن يفعل؟ وكيف نريد أن توظّف التكنولوجيا في التعليم؟
باعتقادي، إذا تغلّبنا على تلك التحدّيات، فإنّ البقيّة الباقية من التحدّيات يمكن التغلّب عليها، وحلّ إشكاليّاتها، وهي تلك المتعلّقة بتوفّر البنية التحتيّة، من الأجهزة والأدوات التكنولوجيّة لدى المعلّمين والطلبة، وهذا مرتبط بموازنات الحكومات.
استراتيجيّات وأدوات لتعليم مختلف
بات من الضروريّ العمل على استخدام الطرائق والاستراتيجيّات التي تنمّي مهارات القرن الحادي والعشرين، التي تساعد الطالب على تطوير مهاراته الحياتيّة بصورة مستمرّة، ولا بدّ من تبني الاستراتيجيّات والطرائق التعليميّة التي تركّز على الطالب وتتمحور حوله، فيكون هو مديرًا لعمليّة تعلّمه. علينا أن نساعد الطالب على تطوير مهارات التفكير العليا لديه، ونجعله مفكّرًا ناقدًا، متأمّلًا فيما حوله، مخطّطًا لحلّ المشكلات، رابطًا ما يتعلّمه من محتوى في سياقاته الحياتيّة اليوميّة، ليكون رياديًّا مبدعًا.
على سبيل المثال: يمكن أن يستخدم المعلّم استراتيجيّة التعلّم القائم على المشروع. لنأخذ موضوع عرض البيانات الاحصائيّة في مادّة الإحصاء، هنا يمكن بناء مهمّات تشكّل معًا مشروعًا تعلّميًّا للطالب، كأن نطلب إليه أن يحضّر جداول إحصائيّةً لبيانات حول عدد المواقع التي تصفّحها خلال مدّة ما، مثلًا: خلال الحجر الصحّي، أو عدد الكتب والمقالات التي قرأها، أو قيمة الإنفاق للأسرة... إلخ. متى فعلنا هذا، فقد وضعنا الطالب في بيئة حقيقيّة، ليستطيع تقدير أهمّيّة الإحصاء في الحياة اليوميّة، بالإضافة إلى أنّه أصبح يفكّر بطرق عرض تلك البيانات، وسيبحث في الإنترنت، أو في المراجع التي يزوّده بها المعلّم. هكذا، أصبح الطالب أيضًا نشطًا متفاعلًا.
ولنلاحظ أنّنا باستخدامنا لهذه الاستراتيجيّة، طرحنا مواضيع عدّةً في مهمّة واحدة، ونستطيع أن نبني على ذلك ونتوسّع أكثر. في الأمثلة السابقة، نستطيع أن نربط أكثر من مادّة معًا ضمن مشروع تعلّميّ تكامليّ، كأن نطلب إليه أيضًا عمل تحقيق صحفيّ حول أشخاص أصيبوا، وما هي الإجراءات التي كانوا يتّبعونها قبل الإصابة وبعدها، ليستنتج الإجراءات السليمة في سبيل الوقاية من الفيروس. هذا مثال على مشروع لمادّة اللغة العربيّة أو الإنجليزيّة.
المطلوب هو أن نستخدم استراتيجيّات تعليميّةً تركّز على الطالب، تجعل منه فاعلًا نشطًا، يبحث عن المعرفة، وينتجها ويبنيها بنفسه. هكذا، نوظّف التعليم المدمج بصورة فعّالة، ونطوّع التكنولوجيا لخدمة التعليم، ونساهم في تعزيز قيم واتّجاهات، ونطوّر مهارات القرن الحادي والعشرين لدى الطلبة.
أنظر إلى المعلم على أنّه محور عمليّة الانتقال نحو التعليم المدمج، وإلى الطالب بوصفه محورًا لعمليّة التعلّم. ولا بدّ من تقديم تحفيز للمعلّمين بما يعزّز لديهم اتّجاهات إيجابيّةً نحو التطوّر المهنيّ المستمرّ، وذلك لنتمكّن من تدريبهم وتطوير كفاياتهم على نحو يضمن النجاح في هذا التحوّل. لا يكفي أن ندرّب المعلّمين على استخدام منصّات إلكترونيّة، ولا يكفي أن يعرف المعلّم كيف يدير تلك المنصّات وينظّمها. في اعتقادي، إنّ ذلك يبقى في فئة القشور على أهمّيّته، لكن الأهمّ من ذلك هو العمل على تدريب المعلّمين وتمليكهم مهارات استخدام تلك الاستراتيجيّات الفعّالة.
الأدوار الأساسيّة للمعلّم
أضحت عمليّة التغيّر المستمرّ في هذا العالم حقيقةً لا مفرّ منها. نحتاج إلى معلّمين قادرين على تنمية شخصيّة المتعلّم، وإضافة أنماط سلوكيّة جديدة له، ولديهم الميل إلى التجديد والتطوّر. سنتناول أدوار المعلّم في محورين أساسيّين، هما: أدوار المعلّم الأساسيّة، ورؤية مستقبليّة لأدوار المعلّم الجديدة.
أمّا في محور الأدوار الأساسيّة القائمة اليوم، فهي تستلزم عددًا من الصفات والمهارات، مثل:
- الإلمام المعرفيّ في تخصّصه.
- ثقافة عامّة.
- شخصيّة قياديّة.
- مهارات إدارة الصفّ.
- تحليل المحتوى وكتابة الاختبارات الجيّدة.
- أن يكون قدوةً لطلبته.
الأدوار المستقبليّة للمعلّم
مع تطوّر التعليم والتطوّر التكنولوجيّ عموما، لا بدّ للمعلّم أن يساهم في تنمية المتعلّم ليكون قادرًا على ترجمة ما تعلّمه، ليستطيع أن يطوّر ما تعلّمه ليتكيّف مع البيئة والسياقات الحياتيّة الجديدة التي يفرضها الوضع العالميّ الجديد. من هنا، أصبح لا بدّ من أن يكون المعلّم قادرًا على القيام بالأدوار الآتية:
- ميسّر ومرشد ومتابع للتعلّم: إذ يتطلب منه أن يعطي أدوارًا للطالب، ويزوّده بمداخل للتعلّم ويتابعه في تقدّمه، لا أن يعطيه المعرفة جاهزةً. يجب على المعلّم أن يساعد الطالب على بناء معرفته بنفسه.
- خبير في استخدام التكنولوجيا لتسهيل عمليّتي التعليم والتعلّم: هذا الدور أصبح من الأدوار المهمّة جدًّا خاصّةً مع التعامل الإجباريّ مع التكنولوجيا، فلا بدّ للمعلّم أن يتقن استخدام عدد من البرامج والتطبيقات الإلكترونيّة، لإنتاج مصادر ووسائل تقنيّة تسهّل عمليّة التعليم.
- ضابط جودة شاملة للتعليم: تتطلّب المرحلتان الحاليّة والقادمة بمتغيراتهما المتسارعة والجديدة إنسانًا ذا مواصفات معيّنة لاستيعابها والتعامل معها بفاعليّة، وتقع هذه المسؤوليّة على عمليّة التعليم لإعداد أفراد يستطيعون القيام بذلك بكفاءة من أجل الانخراط في المنظومة العالميّة الجديدة، إذ إنّ إدارة الجودة الشاملة هي أحد الأطر الفعّالة الأساسيّة للقيام بهذه المهمّة.
- مكتشف للمواهب والقدرات الإبداعيّة لطلبته: المهمّات التي يكلّف المعلّم طلبته بها، وإعطاؤه الحريّة لهم لاختيار عرض منتجاتهم، يتيح ذلك له أن يكتشف المميّزين والموهوبين في كلّ مجال، ليعزّزهم ويطوّر قدراتهم ومواهبهم.
- دور المعلم كمدير في العملية التدريسية: فهو المسؤول عن المحتوى وطرحة بالطرق المناسبة، واختيار الأهم منه، والذي يشكل أولوية، ومسوؤل عن متابعة الطلبة وتعلمهم...الخ
- متعلِّم مدى الحياة: يمارس المعلّم دورًا مهمًّا في التطوير المهنيّ المستمرّ، من خلال اطّلاعه على كلّ جديد.
- مبدع في العمليّة التدريسيّة: المعلّم القادر على التنويع في طرح أساليب وطرق تعليميّة، وربط المحتوى بالمتغيّرات والمستجدّات الحياتيّة، يمارس دورًا يبرز هويّته.
- متأمّل في العمليّة التربويّة: يُعدّ التأمّل أساسًا للتطوّر المهنيّ المستمرّ.
- باحث تربويّ: يفحص الكثير من القضايا النظريّة التي يطبّقها، ويعدّل عليها، ويطوّر من أساليبه ونظريّاته.
في النهاية فإنّ المطلوب الآن هو الاهتمام بتدريب المعلّمين، وتطوير مهاراتهم، وكفاياتهم، وهذه خطوة أولى أساسيّة للتعامل مع الوضع الجديد، ومع التقنية بكلّ مضامينها وتصنيفاتها واستخداماتها.