التعليم الدوليّ في ظلّ الإبادة الجماعيّة
التعليم الدوليّ في ظلّ الإبادة الجماعيّة
عالية نسيبة | معلمة لمادة السياسة العالمية ومنسقة العلوم الانسانية للمرحلة المتوسطة-الاردن

"ينقذ بسلاحف بحريّة، ويقتل حيوانات بشريّة، تلك قضيّة... وتلك قضيّة".

تلك كلمات أغنية فرقة كايروكي المصريّة "تلك قضيّة"، والتي تمثّل بجدارة ما يعانيه التعليم في المدارس، ولا سيّما تلك التي تقدّم برامج دوليّة في البلاد العربيّة. ولكنّ غزّة، كما حرّرت العالم من وهم "الغرب المتنوّر والأخلاقيّ"، كشفت عن الخلل الكامن في التعليم الدوليّ المبنيّ على مفهوم الـ"international mindedness”، أو "التوجّه الدوليّ" في التعليم، ولا سيّما في طريقة تطبيق هذه المناهج في المدارس، للإيفاء بمعايير الاعتماد، من دون مساءلة أو نقد. فنرى تطبيقًا أعمى، وسعيًا يمكن وصفه بالحنبليّ، لتحقيق المعايير والأسس المفروضة من منظّمات التعليم الدوليّة، مثل برامج "IGCSE" و"IB" و"CIS"، وغيرها من المؤسّسات المانحة للاعتماد.  

لكن، ما التعليم الدوليّ؟ ولمَ أصبح مبجّلًا في المدارس، وفي الدول العربيّة، من دون مساءلة أو نقض أو تفحّص؟ تهدف هذه المقالة إلى تفكيك هذا التوجّه في التعليم في الدول العربيّة، ولا سيّما في ظلّ الإبادة الجماعيّة لأهلنا في غزّة. 

 

التعليم الدوليّ: الغموض الواضح 

مصطلح "التعليم الدوليّ" مصطلح مطّاط للغاية، ويمكن أن يعني أشياء مختلفة حسب السياق والتفسير (Hayden, 2006). تطوّر التعليم الدوليّ ليصبح "ممارسة" أكثر تميّزًا، توصَف بأنّها "تطبيقيّة، وأكثر توجيهًا نحو سوق العمل"(Cambridge and Thompson, 2004). نظرًا إلى تعدّد أبعاد هذا المصطلح، تقترح Hayden (2006) أن يُستخدم التعليم الدوليّ مصطلحًا "شاملًا"، حيث يحتوي الأبعاد والتفسيرات المتطوّرة باستمرار، والتي تحاول في النهاية تشكيل التعليم في سياق عالم مترابط ترابطًا متزايدًا. ولفهم هذه الفكرة فهمًا أفضل، يصبح من الضروريّ التفاعل مع "الدوليّة" قوّةً إيديولوجيّة تدعم هذا التعليم. فالدوليّة، على الرغم من مظاهرها العديدة، والافتراضات المُشكَلة أحيانًا، تشير إلى ما يناقض القوميّة والعزلة، وتتطلّب التزامًا يتجاوز حدود الفرد الوطنيّة.

يمكن القول إنّه، في سياق نهاية القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، تزداد الحاجة إلى التعليم الدوليّ. تشمل هذه الحقائق اقتصادًا عالميًّا معولمًا، والمنظّمات فوق الوطنيّة، والتقدّم التكنولوجيّ في الاتّصالات، وتغيّر موازين القوى، ونموّ السكّان مصحوبًا بممارسات غير مستدامة تؤدّي إلى قضايا عابرة للحدود مثل أزمة المناخ (Roberts, 2015). ويُنظر إلى التعليم الدوليّ ضمن هذا السياق على أنّه "استجابة" للعولمة السريعة، والحاجة إلى إعداد الطلبة للانخراط في اقتصاد عالميّ بطريقة تنافسيّة، بينما يتبنّون أدوارهم كمواطنين "عالميّين"، يقدّرون التنوّع ويستجيبون استجابة أساسيّة لقضايا أخلاقيّة، مثل التفاوت الاقتصاديّ، والظلم، والفقر، والانهيار البيئيّ وغيرها (Roberts, 2015). ولهذه الغاية، يُركَّز على القضايا العابرة للحدود، ومن أبرزها قضايا البيئة والاستدامة، والتي باتت في جوهر تلك البرامج ومعاييرها. ولكن، من جهة أخرى، جاء انتشار التعليم الدوليّ في البلاد العربيّة نتيجة ضعف المناهج الوطنيّة، وتخلّي الطبقة الوسطى عن المدارس الحكوميّة، وترهّل النظام التربويّ الحكوميّ في الكثير من الدول العربيّة.

 

دوليّة أم معولمة؟ 

لا تنحصر ممارسات التعليم الدوليّ الحاليّة بتحقيق أهدافها الإيديولوجيّة المستوحاة من الفكر الغربيّ الليبراليّ، كالاستجابة للمشكلات عابرة الحدود، وأهمّيّة الديمقراطيّة، بل لها أهداف عمليّة مرتبطة بالعولمة الاقتصاديّة والرأسماليّة أيضًا، حيث يصبح الربح هدفًا رئيسًا. فمن ناحية، تمثّل الاتّجاهات الدوليّة التي تهتمّ بـالتطوّر الأخلاقيّ، وتعزيز المواقف الإيجابيّة تجاه السلام، وحقوق الإنسان، والمواطنة العالميّة المسؤولة وفقًا لرؤية تقدّميّة للتعليم. ومن ناحية أخرى، تكمن المصالح العمليّة في الاتّجاهات العالميّة في التعليم، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمنطق الرأسماليّة والتجارة الحرّة والاندماج الاقتصاديّ، حيث يُلبَّى الطلب على المؤهّلات التعليميّة القابلة للاعتماد من دولة إلى أخرى، أي من سوق عمل إلى آخر (Cambridge and Thompson, 2004).

يُظهر Jones (1998) التناقض الصارخ والخطير، والذي يوجد بين الاتّجاهات الدوليّة في التعليم، محاججًا بأنّ "المنطق المؤيّد للدوليّة (التي ترتكز على الديمقراطيّة) يتناقض تناقضًا حادًّا مع منطق العولمة". وتوضّح معالجة جونز موضوع العولمة فكرته، حيث يكشف كيف أنّ منطق العولمة ثقافيّ تمامًا، كما هو اقتصاديّ، مع تداعيات قضيّة "تحييد الفروقات" والاحتفال بها في الوقت ذاته؛ ممّا يخلق "عالمًا موحّدًا" عن طريق "تحويل الفرق والتنوّع في النهاية إلى قضايا تتعلّق بأسلوب الحياة، والاستهلاك، والبحث عن المتعة، بدلًا من احتياجات الديمقراطيّة الأساسيّة" (Jones, 1998). وباختصار، فللتعليم الذي يسمّى تعليمًا دوليًّا شقّان رئيسان:  

 

1. الشقّ الأوّل هو "الدوليّ"، بمعنى أنّه مبنيّ على فلسفة غربيّة ليبراليّة، تؤمن بالتعاون لحلّ القضايا، ولا سيّما المتعلّقة بحقوق الإنسان والديمقراطيّة والحفاظ على البيئة، وما إلى ذلك. فادّعاءات الدوليّة بـ"الدوليّة" لا تمرّ من دون منازعة. فكما يكتب Van Oord (2007) عن أحد البرامج الدوليّة في فلسفته التعليميّة أنّه يعاني من أحاديّة الثقافة إلى حدّ كبير؛ ممّا يعرّضه لمخاطر الإمبرياليّة الثقافيّة.

2. الشقّ الثاني عولميّ، أساسه الاندماج الاقتصاديّ والثقافيّ إلى حدّ كبير، ودليل ذلك انتشار المدارس الخاصّة التي تمنح التعليم باللغة الإنجليزيّة والشهادات "المعترف بها دوليًّا". وبسبب ترهّل مؤسّسات التعليم الحكوميّة والمناهج التربويّة العربيّة، تصبح الدول العربيّة سوقًا واعدةً تجني منها مؤسّسات اعتماد التعليم الدوليّ، بالإضافة إلى المدارس الدوليّة التي تملكها شركات تعليم دوليّة خاصّة، الأرباح الكبيرة.  

 

ولن أخوض هنا في موضوع تبعات هذه الظاهرة على الطبقيّة في المجتمعات العربيّة التي تُصنَع في هذه المدارس. ولكن، سأخوض في تبعات هذا التعليم على الطلّاب الذين يشهدون مذبحة متلفزة لأشقّائهم في غزّة، بينما يتعلّمون عن إنقاذ السلاحف، والاستدامة، ومواثيق حقوق الإنسان.  

 

تبعات التعليم الدوليّ داخل الغرفة الصفّيّة 

ليس من الغريب أن نرى نحن، المعلّمين في مدارس دوليّة، القضايا نفسها تُدرَّس في الغرفة الصفّيّة مرارًا وتكرارًا تحت منظومة التعليم الدوليّ، مثل الاحتباس الحراريّ، والفيضانات، والفقر والجوع، وحقوق الإنسان، والتعليم للتنمية المستدامة (UN SDGs)، كلّها تُدرَّس وتتطلَب من المتعلّم أن يكون فاعلًا في التغيير "an agent of change". وهو، بعبارة أخرى، تعليم مبنيّ على أسس الأمم المتّحدة والمنطق "الدوليّ"، فيتّبع المنطق ذاته الذي يدين ولا يفعل، المنطق الذي ينهار أمام أعين الناس. ومن المعروف أنّ متطلّبات "العقليّة الدوليّة" مبنيّة على الحياديّة في التعامل مع القضايا، فيكتب الطالب المقالات حول الحروب "بحياديّة"، ونسمّي ذلك التفكير الناقد، والأخذ بوجهات النظر. وحين تُبحث القضايا المحلّيّة أو الإقليميّة في الغرفة الصفّيّة، تدرَس من وجهة نظر شخص دخيل أو "خبير" أجنبيّ محايد، يجسّد هذه "العقليّة الدوليّة". وبالنتيجة، يصبح الطالب العربيّ "دوليًّا" في توجّهه وتفكيره، حتّى في قضايا بلاده. والجدير بالذكر هنا أنّ هذه العقليّة الدوليّة هي من أركان التعليم الدوليّ، ومن ركائز النجاح في امتحاناته. وهي موجودة في معظم معايير الاعتماد التي على المدارس إثبات وجودها.  

ولكن، هذا الحياد هو تغييب الفاعل، ووضع حمل المسؤوليّة على "الطرفين"، بحيث تصبح كّلّها "وجهات نظر" حول قضايا محوريّة المطلوب فيها اتّخاذ الموقف وقول الحقيقة كما هي: قبيحة وواضحة؛ وعلى الإنسان صاحب القيم أن يفصح بالحقّ وألّا يخشى، وألّا يخفي الفاعل المجرم وراء جرائم ضدّ الشعوب، أكانت جرائم حرب أم جرائم بيئيّة تدفع ثمنها الشعوب الأفقر والأضعف. وهنا، أريد أن أنصف التعليم الدوليّ، وأقول إنّه لم يأتِ ولم ينشأ من فراغ، بل هو جزء من منظومة ثقافيّة واقتصاديّة وسياسيّة عالميّة مهيمنة، تضع "قواعد وضوابط" للخطاب والبحث الأكاديميّ، وبالأخص حول قضيّة فلسطين التي باتت شبه مغيّبة في أوساط التعليم الدوليّ في البلاد العربيّة.  

والأهمّ من ذلك هو أنّ الإبادة الجماعيّة لسكّان غزّة من أطفال ونساء ورجال عزّل، ما هي إلّا نتيجة "الحياديّة الدوليّة"، والخجل من اتّخاذ الموقف الواضح والجازم في الفعل والقول، وفشل الدول والمؤسّسات التي تدّعي الديمقراطيّة في أن تجسّد المبادئ التي ندرّسها اليوم في غرفنا الصفّيّة على أنّها أسمى وأرقى وأفضل من تعليم عربيّ تحرّريّ وصادق بتجربة أناسه. وهنا ينبغي السؤال: لأيّ غاية تعلّم الدول والمجتمعات العربيّة إذا لم تعلّم القضايا التي تبعد عن حدودها بضعة كيلومترات؟ فالمسافة بين عمّان والقدس، حيث تنهب وتدمّر المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة، 100 كيلومتر على سبيل المثال. والمسافة بين غزّة التي تباد والقاهرة تقطع بأقلّ من أربع ساعات بالسيّارة. فهل ننتظر الحرب العلنيّة من دولة مجرمة، بينما ندرِّس حماية السلاحف، و"التعاطف" مع الآخر، وترديد الكليشيهات التي تجعل منّا مواطنين عالميّين قادرين على أن نتفاعل مع القضايا العابرة للحدود، بينما أمامنا وعلى حدودنا جيش لا يحترم قانونًا دوليًّا، ولا معاهدات سلام ولا قواعد؟! وهو ذاته الجيش الذي يوصف "بأكثر الجيوش أخلاقيّة في العالم"، وينتمي إلى دولة تصف نفسها بأنّها "الدولة الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط". أمّا الدول الغربيّة التي نقتبس مناهجنا منها فهي الشريان المورّد للمذبحة. هنا أمامنا نحن، المعلّمين والإداريّين، خيار ومسؤوليّة تجاه أجيال مواطني المستقبل، فهل نضيّع وقتهم بما هو ليس صادقًا لسياقهم، بل وقد يضرّ بمستقبلهم ومستقبل بلادهم؟  

* * *

وهنا، أتذكّر كلمات أغنية كايروكي مجدّدًا، والتي من وحيها أكتب هذه المقالة: "كيف تكون إنسانًا راق، ومطابق للاشتراطات، كلّ كلامك لابس واق، وبتحضن كلّ الشجرات." والجواب هو: "التعليم الدوليّ".

 

المراجع

- Cambridge, J. and Thompson, J. (2004). Internationalism and globalization as contexts for international education. Compare. 34(2). 161–175. https://doi.org/10.1080/0305792042000213994

- Hayden, M. (2006). Introduction to International Education: International Schools and their Communities. SAGE Publications. http://ebookcentral.proquest.com/lib/bath/detail.action?docID=334435

- Jones, P.W. (1998). Globalization and Internationalism: Democratic Prospects for World Education. Comparative Education. 34(2).143–155. 

- Roberts, B. (2015). Education for a Different World: How International Education Responds to Change. In: M. Hayden, J. Levy and J.J. Thompson, eds. The SAGE handbook of research in international education. SAGE reference. http://libproxy.bath.ac.uk/login?url=http://search.ebscohost.com/login.aspx?direct=true&scope=site&db=nlebk&db=nlabk&AN=1099435

- van Oord, L. (2007). To westernize the nations? An analysis of the International Baccalaureate’s philosophy of education. Cambridge Journal of Education. 37(3). 375–390. https://doi.org/10.1080/03057640701546680