افتتاحيّة الملفّ: تحرير العقل في مواجهة إبادة العصر
افتتاحيّة الملفّ: تحرير العقل في مواجهة إبادة العصر
جمانة الوائلي | باحثة في سوسيولوجيا التعليم والعدالة الاجتماعية لمرحلة ما بعد الدكتوراه - جامعة ألستر البريطانية
نضال الحاج سليمان | باحثة في مجال سوسيولوجيا التعليم والقيادة التعليمية والعدالة الاجتماعية. جامعة ألستر، المملكة المتحدة

بداية، نذكّر العالم بأنّ يوم صدور هذا العدد هو اليوم ال363 من الإبادة في غزّة... سنة كاملة من حملة قتل شعواء، أضحت فيها المدارس ملاجئ، وما لبثت أن استحالت مسارح لمجازر مروّعة، وشاهدةً على مقتلة اغتالت حتّى يوم كتابة هذه الكلمات، أكثر من سبعة عشر ألف طفل، وتسعة آلاف طالب، وأكثر من خمسمائة معلّم، ومائة باحث وأستاذ جامعيّ. ودمّرت بشكل ممنهج 117مدرسة وجامعة تدميرًا كلّيًّا، و 332مدرسة وجامعة تدميرًا جزئيًّا على ما نُقِل.

ولكنّنا مازلنا نكتب...

 نكتب كي لا ينطفئ الألم متحوّلا إلى خدر واعتياد الموت ومشاهد الدمار، وكي لا ننسى أو تُنْسَى مقتلة أهلنا. نكتب كي لا تسوّل لنا نفوسنا التفكير بأنّنا عاجزون، ولأنّنا اليوم أقدر من أيّ وقت مضى على التعلّم من تجارب عقود من الاحتلال والحروب والموت، بشتّى أنواع الأسلحة التي يحتاج الغرب المتحضّر إلى ساحة لتجربتها، فيجدها في أرضنا.

 نكتب لكي لا يكون للعدوّ ما أراد.

نتصوّر مع كاتبينا وقرّائنا، تربويّين ومعلّمين وباحثين ومتعلّمين، وعيًا جديدًا، حرًّا، تحرّريًّا نقديًّا، يتحدّى القتل والدمار والألم، ميمّمين وجوهنا شطر غزّة وفلسطين كلّها، وعيوننا على لبنان، والسودان واليمن والعراق وسوريا وليبيا. نكتب لنتحرّر وتتحرّر الأجيال بعقولها وأجسادها من لعنة الانسياق والتدليس والتدجين، راجين أن يتمخّض كلّ هذا الألم والقهر عن تعليم تحرّري مكافئ لأهوال مرّت، وتمر فيها، أجيال من المعلّمين والمتعلّمين في بلادنا.

ندرك أوّلًا أنّ الدعوة إلى تعليم تحرّريّ، تبدأ من بناء أصيل لهذا المفهوم ضمن سياقاتنا نحن، وبعيدًا عن استيراد تعريفات ونظريّات معلّبة. وعليه، فإنّنا لا نسعى لاستنباط آليّات ومصطلحات تعليميّة من النظريّات النقديّة المعروفة، أو نشر ثقافة التعليم التحرّريّ انطلاقًا ممّا كُتب سابقًا، وعُرف في بقاع شتّى من العالم. بل حرصنا على أن يقدّم هذا الملفّ محاولة لتأطير جديد لمفهوم التعليم التحرّريّ، انطلاقًا من واقع حرب الإبادة على وعينا ومسؤوليّتنا ورسالتنا التربويّة. وعملنا على إعادة رسم خارطة طريق تربويّة - تعليميّة تلائم تحدّيّات هذه المنطقة من العالم، بالسعي لتفكيك النظريّات التعليميّة التحرّريّة والنقديّة، والغوص عميقًا في ما يعنيه التعليم التحرّريّ اليوم وهنا، في سياقاتنا وواقعنا.

 

من هنا، حاولنا في هذا الملفّ، أن نبني مع كتّابنا - وغالبيتهم من المهنيّين الممارسين -إطارًا جديدًا للتعليم التحرّريّ في الحاضر والمستقبل. وأن نقدّم تطبيقًا حيًّا نسعى فيه، محرّرين وكتّابًا وقائمين على هذا العدد - لاستيعاب مفهوم التعليم التحرّريّ، عبر رحلة نقديّة تحليليّة تتخلّلها عشرات الأسئلة والنقاشات؛ بل ويذكّيها الاختلاف، كما الاتّفاق، ليخرج هذا الملفّ إلى النور بما فيه من موادّ وأفكار وأمثلة حيّة، وأسئلة نابضة من قلب الوسط التعليميّ العربيّ.

تبرز أهمّيّة مناقشة التعليم التحرّريّ اليوم، في كونه حاجة ملحّة لكلّ متعلّم ومعلّم. بل قد نذهب إلى القول إنّه أضحى حقًّا أصيلًا لكلّ طالب علم - متعلّمًا كان أو معلّمًا في مؤسّسة، أو مجتمع، أو شارع، أو خيمة نزوح - في ظلّ ما نشهده من طمس لحقوق الإنسان المركزيّة؛ ابتداء من الحقّ في الحياة والعيش بكرامة، ومرورًا بالحقّ في الحصول على تعليم مناسب يلبّي حاجات المتعلّم. وهنا نسأل، ويتساءل معنا كتّابنا: ماذا نعني بالتعليم المناسب؟ أهو ذاك التعليم العقيم الذي يحيط الطفل بسورٍ، مانعًا إيّاه من تجاوزه، فلا يسمح له بأن يكون شريكًا في عمليّة تعليمه، ولا حتّى في أسرته؟ سؤال برسم مقال أحمد عاشور من قلب مهوى أفئدة الأحرار، غزّة؛ مقال اخترناه فاتحة ملفّنا، وفيه ينقل لنا أحمد صورة غزّة النازفة التي - وعلى رغم سحائب الموت التي غطّتها - استطاعت إعادة التعليم "لكونه ما نجهل لا ما نعرف".  فكانت غزّة، كما فلسطين كلّها، البوصلة والنواة الرائدة لتعليم تحرّريّ مجتمعيّ ثوريّ، يصوغ ملاحمه المجتمع الغزّيّ والفلسطينيّ بترابطه وتلاحمه ومبادريه المجتمعيّين.

وتقودنا خالدة موسى إسماعيل قطّاش بعد ذلك، إلى تجربتها الفريدة في رصد "غِمامات" الهيمنة التي تخنق نَفَسَ التحرّر. وتكشف لنا كيف أنّ التعليم الحقيقيّ هو ذاك الذي يمنطقه المتعلّم، ويشعره ويعيشه بنفسه؛ فيعرف أنّ بمقدوره تحرير بصره وبصيرته من أسر "الغِمامات". ولأنّ فلسطين، كما ذكرنا، كانت وستبقى أصل الحكاية ومنبع التحرّر والتحرير، فقد كان لزامًا أن يصحبنا بدر عثمان في رحلة ساحرة في التجربة السبّاقة لخليل السكاكينيّ، "الإنسان إن شاء الله"، وأثرها في مجاورات منير فاشه، للخوض في غمار تحرير التعليم بهدف إعزاز المتعلّم.

في مقالنا الرابع تناقش سهير بن سالم مناقشةً معمّقة وممنهجة، كيف يمكن للتعليم أن يصبح أداة مقاومة فعّالة، تحرّر العقول تمهيدًا لتحرير الحدود، مضمّنة المقال شهادات وتجارب حيّة لمعلّمات ومعلّمين من غزّة والعالم، إبّان سعيهم لإرساء نهج تحرّريّ للتعليم في ظلّ حروب الإبادة، ومحاولات طمس الهويّة المعرفيّة والثقافيّة. لتكتب بعدها عالية نسيبة في نقد التعليم الدوليّ في أوطاننا، والذي يولي جلّ اهتمامه لإنقاذ السلاحف وحقوقها وحماية الأشجار، متجاهلًا مقتلة أهلنا، ومتعمّدا تغييب صوت كلّ متعلّم يشاهد بأمّ عينيه مذبحة أشقّائه تحت مبرّرات الحياديّة الدوليّة.

ننتقل بعدها في مقالنا السادس إلى مناقشة أهمّيّة تشكيل وعي جمعيّ وإرادة مجتمعيّة حقيقيّة، تُفضي إلى حركة شاملة تؤمن بضرورة تغيير واقع التعليم في أوطاننا. في هذا المقال، يستعرض د. مروان أحمد محمود حسن كيفيّة بناء هذا الوعي، ويحلّل العوامل التي تعوق هذه الحركة، مستكشفًا آفاق التعليم التحرّريّ في المنطقة العربيّة بين الطموح والواقع.

ثمّ نغوص أكثر في تفكيك مفهوم التعليم التحرّريّ وعلاقته بتجربة غزّة تحديدًا، وذلك بمقال مميّز للدكتورة سائدة عفونة، والذي يطرح السؤال الجوهريّ: هل يعقل أن يعود أطفال غزّة الذين تحرّروا من فكرة الموت والخوف، إلى تعلّم مناهج سلطويّة تلقينيّة، لا ترقى إلى محاكاة أبسط يوميّاتهم؟

في المقابل، تسلّط إيناس زهران الضوء في مقالها، على سؤال مركزيّ آخر عن مدى حرّيّة التربية التحرّريّة بحدّ ذاتها، مشيرة إلى ضرورة فهم طبيعة المجتمع الذي تنشأ فيه، وطبيعة التحدّيات التي تحكمه. وتشدّد على دور المعلّم في تشكيل وعي طلبته المقهورين للتخلّص من القيود الفكريّة.

في المقال ما قبل الأخير، يبدع نسيم قبها في صياغة العلاقة بين التعليم وترتيب علاقات القوّة المدفوعة بالمصالح، والتي تقتضي بالضرورة إعادة التعليم إلى التحرّريّة ليكون مشكاة العالم. لنختتم بعد ذلك ملفّنا بسؤال أخير، لعله راود ويراود كلّ الأحرار الذين عاشوا مآسي أوطاننا... أوليس من المنطق أن تصير هذه المآسي غير المسبوقة فرصة لتحقيق تغيير جذريّ يقودنا إلى تعليم تحرّريّ، ننهض به نحو الحرّيّة؟ يتساءل علي عز الدين، فاتحًا الباب على مصراعيه، لأسئلة كثيرة تتوّج ملفًّا نرجو به إثارة المزيد من التساؤلات والمناقشات، وتحفيز مقاربة نقديّة تحليليّة تحرّريّة حول التعليم النقديّ "نمنطقها ونذوّتها" (بتعبير خالدة قطّاش) على مقاس أوطاننا.

 

ونحن في منهجيّات، إذ نضع بين أيديكم هذا العدد، فإنّنا نطمع في سماع آرائكم وتجاربكم، وما تبيّنتموه وبنيتموه، في ضوء ما قدّمنا؛ للخروج بتصوّر شامل عن تعليم فعّال مقاوم، يحارب التجهيل والتدجين ومراكمة الخوف والتلقين، ومناهج السير في ظلّ الجدار (ويا ربّ السترة)، فيسمو بالإنسان ويكسر نير العبوديّة، معيدًا إلى المتعلّم حقّه في تحرير ما حباه الله به من معجزة العقل البشريّ، ليكون فعّالا وقادرًا على تحرير الأوطان.