يثير العدد الأخير من مجلّة منهجيّات كثيرًا من الطموحات، لكنّه، في الوقت نفسه، يفتح بابًا واسعًا للنقاش البناء حول كيفيّة استعادة الدور المجتمعيّ للمدرسة، وأهمّيّة هذه الاستعادة في ضرورة مساهمة المدرسة الفعّالة والكبيرة في إنتاج النظام الاجتماعيّ الخلّاق، الذي يُشكّل الطلبة والمعلّمون والتربويّون أركانًا مهمّة فيه.
المقالات التي حفل بها ملفّ العدد أعادتني إلى منطقة بعيدة في شرق المملكة الأردنيّة الهاشميّة، حيث البيئات التي تفتقر إلى الموارد، والمدارس التي بحاجة إلى كثير من الإمكانيّات، لكن هذه التحدّيات يخفّ أثرها عندما يقود المدرسة تربويّون يؤمنون أن دور المدرسة أكبر بكثير من مجرّد نقل المعارف المنهجيّة للطلبة، وأنّ جدران الغرفة الصفّيّة يمكن أن تصبح نوافذ يحلّق عبرها الطلبة إلى رحاب أوسع، وأن سور المدرسة لا يحجب ما وراءه من مجتمع تتفاعل فيه الأفكار والمواقف والرؤى.
لم يكن في بناء تلك المدرسة ما يميّزه، غرف عاديّة، فقيرة بالموارد، لكنّها غنيّة بإرادة التربويّين فيها.
أثمر سعي القيادة التعليميّة والتدريسيّة فيها بالحصول على منحة لبناء قاعة متعدّدة الاستعمالات، وملعب صغير، ولما صارت القاعة جاهزة لاستقبال روادها، واكتمل الملعب لاحتضان اللاعبين حتى كانت خطة تشغيلهما جاهزة؛ لضمان تحقيق الفائدة القصوى منهما، إذ كلّفت مديرة المدرسة ثلاثة من الزملاء للإشراف على القاعة، وثلاثة آخرين للإشراف على الملعب، بينما تولّت بنفسها قيادة المجموعتين.
خطّة التشغيل تضمّنت فعاليّات شهريّة، والوقت الذي ستجرى فيه تلك الفعاليات بعد العصر، إذ بقي في ذهن الطلبة وأولياء أمورهم أن التحصيل العلميّ هو الأساس، وبقيّة الأنشطة داعمة له، تصقل المهارات، وتفسح لهم المجال للتعلّم المنهجيّ المرتبط بالتحصيل الأكاديميّ، وأن هدف هذه الأنشطة هو إفساح المجال للطلبة لإظهار أثر التعلّم الذي تلقّوه في الصباح، ومن الأمور المميّزة أن الأنشطة كانت متنوّعة ومتباينة المستوى، لكنّها كانت منظّمة بحيث تجري في وقت واحد يسمح للجميع برؤية النشاط والتفاعل معه.
خطّة الأنشطة ربطت المجتمع بالمدرسة، وجعلت الطالب يشعر بأنه فرد مؤثّر.
تطوّر الأمر عندما ربط المعلّمون التعلّم بحاجات المجتمع ومناسباته، فالحوار مهارة يتعرّض لها الطلبة بشكلٍ مستمرّ، وتعرّضها المناهج الدراسيّة باستمرار، فصار توظيفها بين التعلّم والأنشطة أمرًا جاذبًا للطلبة ومقنعًا لهم، إذ باتوا يرون ما يتعلّمونه في الغرفة الصفّيّة يتحوّل إلى نشاط يراه المجتمع كلّه، ويتفاعل معه، ويبدي رأيه فيه، والأهم أن المجتمع بات يرى أثر تعليم المدرسة في سلوكيّات الطلبة.
قيمة هذا التعلّم الجوهريّة تكمن في أن المدرسة لم تعد مؤسّسة محدودة التأثير، وأن دورها تقليديّ في منح الطالب علامة إذا حقّق قدرًا من المعلومات، بل صارت الآن مؤسّسة فاعلة مجتمعيًّا، تشرك الأهل والمجتمع بما يدور فيها من تعلم، وتسهم في تشكيل تفكير طلبتها عندما يغادرون مبناها، وتمنح المعلّم فرصة لإعادة النظر في أساليب تدريسه عندما يراها في أنشطة عمليّة خارج وقت الدوام المدرسيّ المعتاد، فيعدّل ويطوّر بناء على ما رآه في أداء طلبته، ولا يعود تركيز المعلّمين منحصرًا في كمّيّة المعلومات التي استعادها الطالب وقت الامتحان، بل يمتدّ تركيزه للمهارات الشخصيّة التي ما زال الطلبة بحاجة لتطويرها، فيوجّه نقطة التعلّم صوبها، ويكيّف مادّة المنهاج الدراسيّ بما يطوّر شخصيّة الطالب ومعارفه، فقد وصلوا إلى قناعة أنه يجب إعادة النظر بأسلوب التدريس ومضمونه عندما يرون طالبًا لا يضبط أعصابه عندما يخسر فريقه مباراة كرة قدم، أو يصرخ غيره في وجه زميله الذي يخالفه الرأي، أو يخفق آخر في تقسيم محصول الزيت بين أعمامه عندما يطلب والده منه ذلك.
وفي جانب العمل الجماعيّ فإن دور المدرسة هُنا امتدّ ليشمل مجتمع التعلّم المهنيّ المتخصّص، إذ صار بإمكان المعلّمين عندما ينفّذونَ الأنشطة المجتمعيّة طلب المساعدة من المختصّ والخبير بمجالها، وإجراء حوارات ونقاشات للوصول إلى الحلّ الأمثل، الأمر الذي كوّن مجتمع تعلّم قادرًا على وضع الحلول المناسبة للتحدّيات التي تواجه الطلبة، أو تواجه المعلمين أو حتى أولياء أمورهم.
ربما من حسن طالع هذه المدرسة أن قادها فريق يؤمن بأن دور المدرسة المساهمة الفعليّة في إنتاج النظام الاجتماعيّ الذي يُرضي أفراده، ويوفر لهم بيئات صالحة ترعى مواهبهم وتطوّرها، وتجاوز الدور الوظيفيّ للمدرسة، لكن ذلك لا يمنع ألّا تؤدّي المدرسة دورها الاجتماعيّ ضمن مواردها وإمكاناتها.