تُعتبر الرياضيّات من العلوم العقليّة الضروريّة لفهم مختلف ظواهر العالم. لذلك عُدَّ تعليمها في مدراسنا إجباريًّا، على الأقلّ في المستويات الدراسيّة الأساسيّة والإعداديّة والثانويّة. ونظرًا للطابع العقليّ المحض الذي تتميّز به الرياضيّات، فإن أساليب ووسائل تعليمها شَغلت تفكير مُدرّسيها، ما جعلهم يبدعون أساليب ووسائل خاصّة، أحيانًا يستلهمونها من مواد دراسيّة أُخرى. ومع تطوّر تكنولوجيا المعلومات، فُتِحت آفاق جديدة أمام مُدرّسي الرياضيّات للتفنّن في تعليمها، وتنمية مستوى إدراك المتعلّمين لموضوعات رياضيّة يتوقّف فهمها على إعادة إنتاجها وعرضها معلوماتيًّا. وهكذا أصبحت الإمكانات المُتاحة أكثر فعاليّة وغنى. ويبدو أنّ الانتقال نحو تدريس الرياضيّات عن بُعد، في ظلّ جائحة كورونا، شكّل تحدّيًا للمتعلّمين والمدرّسين معًا؛ فالجمع بين الطابع العقليّ للرياضيّات، والتباعد الذي تفرضه وسائل الاتصال، يثير إشكاليّة حاجة المتعلّم للمدرّس.
أدوات وظّفتُها في التعليم عن بُعد
حدث أنني استكشفت بعض الطُّرق قبل اعتمادها رسميًّا، لأنّني شاركت في بعض التكوينات التي نظّمتها وزارة التربية الوطنيّة. ومن ضمن الطُّرق التي استعملتها في تعليم الرياضيّات عن بُعد منصّة "ميكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams)، وهي منصّة للتواصل مع أشخاص متعدّدين في نفس الوقت، وتوفّر جانبًا لمُشاركة الملفّات المُعدّة ببرامج لنفس الشركة كالاستبيانات (Forms)، والتمارين والملفّات المكتوبة (Word)، أو أدوات العرض عن بعد (Sway)، وغيرها من الأدوات التي يمكن دمجها بشكل سهل. واستخدمت أيضًا موقع كاهوت (Kahoot)، الذي يوفّر إمكانيّة الإجابة عن التمارين عن بُعد في جوٍّ تسوده المنافسة والمتعة. حيث يمكن للتلاميذ الإجابة عن مجموعة من الأسئلة في مدّةٍ محدّدة، وتُعرض الإجابات لكلّ المشاركين في اللُّعبة في نفس الوقت أينما كانوا في العالم. فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعيّ، وهي الأكثر انتشارًا، لاعتياد الكلّ على استعمالها، ما يطرح سهولة في التواصل وتقاسم الملفّات على أنواعها، كما أنّ لبعضها خاصّيّة الحفاظ على المحتوى، ما يوفّر إمكانية الرجوع إليه في أي وقت. وكان لمواقع العرض عن بُعد خاصّية العمل المتزامن، وتوفّر مايكروسوفت أدوات مهمّة تهمّ عرض المحتوى المختلط عن بُعد الذي يُمكن المتعلّم من عرض الملفات المكتوبة والمسموعة ومحتوى الفيديو، كما يسهل مشاركتها أو البحث فيها. كما أنّ مُجمل البرامج المتوفّرة تتيح إمكانيّة العمل المشترك عن بُعد، على نفس الملفات، وذلك بعد رفعها على السحابة الإلكترونيّة. بجانب كل هذه الأدوات المجانيّة يعتبر موقع جيوجبرا (Geogebra) فضاءً تعليميًّا بامتيازٍ، يُمكّن الأستاذ من إنشاء محتوى رياضيّاتيًّا فضلًا عن تقاسمه بصيغ مختلفة، فيديو أو صورة أو صيغة (html)، وتسجيل خطوات إعادة إنجازه لتمكين الكلّ من إعادة إنتاج نفس العمل. هذه كلها أدوات ساعدتني في التعليم عن بُعد.
اعتبارات أساسيّة
شهد التعليم عن بُعد تطوّرًا مستمرًّا ودعمًا من قِبل الحكومات والهيئات العالميّة. وقد أدّت الظروف الصحّيّة العالميّة الحاليّة إلى تسريع وتيرة هذا الدعم، وهو ما خلّفَ كمًّا هائلًا من المنتوجات الرقميّة، واستحداث طرق للتواصل بجانب وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت متاحة واستُعملت بشكلٍ لافتٍ للنظر في التعليم عن بُعد. والمثير في الأمر، أنّ كلّ هذه الوسائل والمنتوجات الرقميّة المستعملة تكتسب ملمحًا فنيًّا من لمسة الأستاذ المبرمج، إذ لا يكفي لوجود منتوج رقميّ كيفما كان أن يقوم مقام المدرس الكفؤ، بل ينبغي له، فضلًا عن ذلك، أن يُضاف إليه أثر المدرّس.
يؤدّي التعليم عن بُعد دوره إن توفّرت فيه الشروط، ويكون فعّالًا مع مواد دون أخرى، ومع بعض المستويات التعليميّة فقط. فليس أي منتوج يُستخدم في تدريس المتعلّم يؤدّي الدور المنوط به، بل ينبغي أن يكون جذّابًا ليشدّ انتباهه ويخلّفَ أثرًا جيّدًا في وجدانه، ومن الصَّعب أن يؤدّي التعليم عن بُعد دورًا فعّالًا في بعض المواد خاصّة التي تعتمد حاسّة اللَّمس كتعلّم بعض الفنون والرياضات، بل وحتى في المواد العلميّة التجريبيّة المختبريّة. كما أنّ تعليم الصغار عن بُعد أمر غير محبّذ لعدّة أسباب، أولها وجوب توفّر تقنية وأدوات اتصال تتناسب مع قدراتهم الإدراكيّة، إذ لا يمكن أن يستعمل طفل في الثامنة من عمره منصّة يجد الكبار أنفسهم تائهين بين ألسنها ونوافذها، كما يلزم مواكبتهم من طرف أولياء أمورهم أثناء استعمالهم لهذه الأدوات. إنّنا نعلم خطر استعمال الشبكة العالميّة العنكبوتيّة على الكبار فما حسبك الصغار.
نظرة استشرافيّة
التطوّر المُتسارع لتكنولوجيا الإعلام والاتصال يلزم المرء بمسايرته، وإلّا سيكون إمّا مستلبًا يتبع ما استجدّ من التقنيّات دون تفكير أو إرادة أو تحكّم، أو يكون منزويًا عنها متخلّفًا عن ركب الحضارة والتطوّر وقطار التنمية. والخيار الأفضل أن يكون المرء على هذا القطار المتسارع يسابق آخر ما استجدّ في مجال التكنولوجيّات الحديثة من أجل تسخيرها وتطويعها لخدمته. وأذكر أنّ آخر ما توصل إليه العلم الحديث في مجال الذكاء الاصطناعيّ يمكن إدماجه في التعلّم لتكون نتائجه فعّالة. على سبيل المثال، يمكن برمجة تمرين على صفحة "ويب"، يتفاعل مع المستخدم حسب حاجته ويعطيه ما ينقصه دون دراية منه في بعض الأحيان. وهذا كلّه يتحقّق بفضل الذكاء الاصطناعيّ الذي يستعمل خوارزميّات، ويسلك مسالك تجعل التمرين المُبرمَج يتعلّم ويزيد من احتمالات التعلُّم بعد كل استعمالٍ، إذ يقوم بتحليل مجموعة من المتغيّرات لينتهي إلى اتخاذ قرار بناء على هذه المتغيّرات.
وأذكر أيضّا أنّ التطوّر في مجال علم الأعصاب وسبر مكنونات الدماغ البشريّ، دفع الباحثين إلى إيجاد طرق بديلة وسلسة وسريعة للتعلّم، بل وتقويم أخطاء التعلّم وتعميمه بنفس معايير النجاعة والجودة. وبينت التجارب قدرة العقل البشريّ على التحكّم في الآلة دون المرور عبر الحواس، فقط بما يُرسله من إشارات عصبيّة تلتقطها أقطاب خارجيّة للقيام بمهام معيّنة بقوّة التفكير. وهُنا يتساءل الكلّ، هل من الممكن أن تصل بنا التكنولوجيا إلى شحن عقل الإنسان بمعلومات كما تُشحن أي ذاكرة إلكترونيّة أخرى، في وقت وجيز، وبمعلومات وخبرات مُختلفة؟