لم يكن وقع خبر هدم مدرستي العزيزة أهون على قلبي من خبر هدم بيتنا، والذي تعلّقت به روحي قبل جسدي. الحسرة نفسها جعلتني أيقن وقتها معنى جملة كنت أراها دومًا على جدرانها: "المدرسة هي بيتك الثاني". تلك الجملة التي عشتها وجعًا خلال هذه الحرب، جعلتني متأكّدةً من أنّ الأمان في المدرسة واستقرارها يُضاهي دفء البيت، ولمَّة العائلة، وأنّ الحبّ الذي يزرعه البيت، ستزرعه حولك في المدرسة. خسارة البيت والمدرسة وجع ثقيل، مع أنّه لا يضاهي خسارة من كان فيهما، لكنّ الروح يعزّ عليها حتّى الجدار الذي تتكئ إليه بعد يوم شاقٍّ من العمل.
كان البيت والمدرسة بالنسبة إليّ عالمين ينفصلان جغرافيًّا، ولا ينفصلان شعوريًّا في الراحة والأمان. الشعور الذي انتابني حال سماعي بهدم البيت، والذي قضى والدي عمره في بنائه، هو الشعور ذاته الذي عشته حين رأيت صورة على إحدى الصفحات لبيتي الثاني وقد تهدّمت أركانه، وبالكاد ظهرت منه صورة جدار أعرفه جيّدًا، خطّ عليه أحد الزملاء: "كُن عالمًا أو متعلّمًا ولا تكن الثالثة". هذه الصورة ستبقى عالقة في سماء قلبي إلى الأبد. وفي اللحظة التي غرقتُ فيها في الحزن على المدرسة، انتشلتني يد نائب المدير قائلة: "لو بقينا أحياء، سنعيدها. هم هدموا الجدران وليس نحن". وقتها أدركت أنّ على المعلّم البقاء بذرة أملٍ في بلاد اليأس، وشمعة لا يليق بها الذوبان.
نعلم جيّدًا أنّهم لم يبقوا للمعلّم بيتًا يستريح فيه، ولا مدرسة يشدُّ الخطوات إليها، ولا حتّى طبشورة أو لوح يكتب عليه. ومع ذلك، فإنّ الكثيرين ما زالوا يعملون في أوضاع بائسة شعلةً تُنيرُ ضوءًا في سواد الحرب. فكلّ المحاولات المتواضعة من الزملاء المعلّمين لإنارة ولو عقل طفل واحد، جُلّ ما يفكر فيه حاليًّا الطعام والأمان، هي محاولات تستحقّ أن ترفع لها القبعات، وتُسجّل في تاريخ الذاكرة كإنجازات لا تُقدّر بثمن. وكل عائلة تعيش في خيمة مهترئة لا تصلح للحياة، ومع ذلك ترسل أطفالها إلى أيّ نقطة تعليميّة قريبة، مدركةً أنّ التعليم لا يقلّ أهمّيّة عن الطعام والماء، هي عائلة لا توفيها كلمات الثناء.
كما إنّ محاولات وزارة التربية والتعليم في الضفّة، لدمج طلّاب غزّة عبر "التيمز" وتطبيق "eSchool"، ووضع الخطط لتقليص المناهج ودمج عامين دراسيّين للطلبة الناجين من الحرب، ومحاولات وكالة الغوث مع اكتظاظ مدارسها بالنازحين والقصف المتكرّر لها، تخصيصَ فصل في كلّ مدرسة تابعة لها للتعليم والتفريغ النفسيّ، هي أيضًا محاولات تنبع من قناعات راسخة بأنّ النهضة الحقيقيّة ستبدأ من التعليم. فالمعلّم هو الذي سيخرج البنّاء الذي سيبني غزّة، والدكتور الذي سيعالج جرحى الحرب، والمهندس المعماريّ الذي سيعيد رسم ملامح المدينة التي سيخرج من بين ركامها طلّاب يرتفع بهم البنيان، وينخفض معهم صوت الدمار.
الخسائر التعليميّة يصعب حصرها، بدءًا من هدر وقت الطالب والمعلّم من أجل الحصول على الطعام والنزوح، بدلًا من قضاء الوقت في المدرسة، ومرورًا بالفجوة التعليميّة؛ فالتعليم تراكميّ، وهدر أكثر من عام دراسيّ يشكّل عبئًا عظيمًا على الجميع. والخسارة الأعظم هي خسارة أرواح أكثر من خمسة عشر ألف طالب ومعلّم وإداريّ في غزّة. لكن طالما ما زالت هناك حياة في غزّة، فللتعليم بقيّة.
ومن وجهة نظري، يجب أن ينصبّ اهتمامي واهتمام كلّ المعلّمين الحقيقيّ حاليًّا، على تدريس المهارات الأساسيّة الأربعة في اللغتين العربيّة والإنجليزيّة والرياضيّات. فالطالب قد ينسى المعارف التي سمعها، لكنّه لا ينسى القراءة والكتابة مدى الحياة، بالإضافة إلى التفريغ النفسيّ والمهارات الحياتيّة. ومن هُنا، أرجو بعد الحرب إضافة حصص للتعلّم الوجدانيّ الاجتماعيّ، كي يستطيع الطالب الخروج من آثار هذه الحرب بروح سويّة، تفرّغ وجعها في أنشطة إدارة الذات، وتتعامل بإيجابيّة مع الآخرين من خلال أنشطة المهارات الاجتماعيّة.
التحدّيات هنا عظيمة، وفي كلّ مرّة تتّصل بي إحدى الطالبات، أعلم جيّدًا أنّ دور المعلّم في غزّة، والتي أثقلتها هذه الحرب، ليس كدور أيّ معلّم آخر في العالم. فهو لا يقتصر على أداء الرسالة وزرع الخير، بل يمتدّ إلى محاولات حثيثة لتضميد جراح الطلّاب، الذين لا يخلو واحد منهم من فقْد فرد من أفراد أسرته، أو خسارة بيته، وربما فقْد طرف من أطرافه... والأقسى أن تجتمع جميعها في طالب واحد. هو تحدٍّ عظيم لي ولكلّ معلّم أثقلته الأوجاع أن يخلع عنه هزائمه ويرتدي ثوب الأمل، ويحتضن معه طلّابه.
كما نهضت الأمم بالتعليم، ستنهض غزّة، مع أنّ الأعباء التي تنتظر الوزارة والمعلّم والطالب والأهالي بعد الحرب، ستكون بمثابة جبال من التحدّيات ليس من السهل تجاوزها. لكنّها ستنجلي مع التعاون المشترك من الجميع، وإعادة توفير الأمان والحاجات الفسيولوجيّة والبيوت المتنقّلة للعيش والتعليم، وتوفير الإنترنت المجّاني لجميع الطلّاب، لأنّ التعليم الإلكترونيّ مكمّل مهم جدًّا لدور المدرسة إن أُحسن استخدامه، ولا سيّما في ظلّ التعلّق القلبيّ لكثير من الأجيال الصاعدة بالتكنولوجيا.
وفي النهاية، السلام على كلّ روح خطفتها الحرب، وكان يفترض بها أن تحمل طبشورتها الآن لتكمل رسالتها السامية في وأد الجهل. وكلّ روح كان يجب أن تكون خلف مقعد الفصل وتحلم بغدٍ مشرق. وكلّ روح، لولا الحرب، لكانت تراجع لطفلها الآن ما تعلّمه في المدرسة، وتعدّه بمكافأة في حال حصوله على علامة عالية في الاختبار. وكلّ روح كان يفترض بها الآن أن ترفع شهادة التخرّج وليس شهادة الوفاة. سلامًا عليكم في عليّين.