تستعدُّ كثير من الدول في شهر أيلول المُقبل لعودة التعليم داخل المدارس، بعد عامين متقلّبين بسبب جائحة كورونا، التي أوقفت العام الدراسيّ 2019/2020 من منتصفه، وفرضت تغييراتٍ على نمط التعلّم المدرسيّ السائد، حيث لم يعد من الممكن بقاء الطلاب داخل المدرسة، ما أعاق بدوره استمرار التعليم بصورته المعتادة، فألحق أضرارًا لا تُحصى في الوسط التعليميّ والأكاديميّ، وأثّر سلبًا في أعداد كبيرة من الطلّاب؛ خاصّة الذين لم تتوفّر لديهم الإمكانات، والموارد اللازمة للدراسة داخل المنزل، فأرغموا على الانقطاع عن التعليم، ريثما تعود المدارس أو يتمكّنوا من الحصول على وسائل تعليميّة في ظلّ ظروف كورونا.
عندما انحسرت الموجة الأولى من الجائحة في صيف عام 2020، وتمكّنت الهيئات الصحّيّة من السيطرة عليها بصورة شبه كاملة، بالتزامن مع قلّة عدد الإصابات، بات التوجّه السائد من قبل الدول يميل نحو تقليل القيود المفروضة، وإعادة فتح القطاعات التي أغلقت للحدِّ من انتشار الفيروس، وهكذا وضعت خطط تمهّد عودة أغلب النشاطات والوظائف والأماكن العامّة، ولكن ضمن شروط الإجراءات الاحترازيّة والوقائيّة، ومن هُنا جاءت ضرورة عودة المدارس، التي تعدّ من أهم القطاعات المتضرّرة جرّاء الجائحة، كما من الواجب انتظام الطلاب في الدراسة مرّة أخرى من أجل الحفاظ على مستقبلهم من الضياع.
سعت وزارات التربية والتعليم والهيئات التعليميّة في دول العالم، لإعداد الخطط اللازمة لعودة التعليم المدرسيّ مع بداية العام الدراسيّ 2020/2021. وفي المقابل ظهرت بوادر الموجة الثانية من انتشار فيروس كورونا في بدايات شهر أيلول 2020، ما أثّر في سيناريو العودة المطروح آنذاك، والمعتمد على الخلط بين التعليم الوجاهيّ والتعليم عن بُعد، والمعروف باسم التعليم المتمازج. وأدّى ارتفاع عدد الإصابات مجدّدًا إلى توقّف التعليم المدرسيّ داخل المدارس، والتحوّل كلّيًّا إلى التعليم عن بُعد، مع وجود آمال بعودة الطلاب إلى المدرسة، ولكن انتهى العام الدراسيّ دون تحقّق ذلك.
بعد مرور ثلاثة فصول دراسيّة، أي ما يقارب سنة وستّة أشهر على تأرجح عودة الطلاب إلى التعليم المدرسيّ، وكثرة الفرضيات المقترحة لإيجاد حلول إيجابيّة وقابلة للتطبيق بما يحفظ حقّ الطالب في التعليم، ويقلّل من الآثار السلبيّة لانقطاعه عن الدراسة، واقتراب بداية العام الدراسيّ 2021/2022، المتزامن مع استمرار ظهور طفرات متحوّرة ومتحوّلة من فيروس كورونا، وتباين عدد الإصابات المسجّلة يوميًّا، يظهر سؤال مهم جدًّا: وهو هل من الممكن العودة إلى المدرسة في عصر كورونا؟ والإجابة على هذا السؤال تكمن في طبيعة خطّة العودة المطبّقة، ومدى نجاح تحقيق بنودها، وأرى أنها غالبًا قد تسلكُ واحدًا من هذين الطريقين:
الطريق الأوّل: العودة الكاملة إلى المدرسة
كثيرة هي الأصوات المُنادية بالعودة الكاملة إلى المدرسة، خاصّة من قبل أولياء الأمور، الذين يعانون من صعوبة توفير متطلّبات استمرار تعلّم أبنائهم في المنزل، كما أن اتساع الفجوة الظاهرة بين واقع التعليم المدرسيّ الوجاهيّ، وشكله الجديد أثناء فترة كورونا، بات الدافع الأساسيّ نحو المسارعة في عودة التعليم الوجاهيّ. وإنّ أي خطوة في هذا الطريق لا بدّ ستحتاجُ إلى مجموعة إجراءات ضروريّة ومهمّة، قد باشرت أغلب الدول بتطبيقها فعلًا، حيث تعاونت الهيئات التعليميّة مع القطاعات الطبّيّة، ذلك من خلال تطبيق البروتوكولات الصحّيّة، وإعطاء مطعوم كورونا للعاملين في قطاع التعليم، بهدف تحقيق العودة الآمنة إلى المدرسة. وأيضًا يترتب على المضيّ في هذا الطريق، الالتزام بالتوصيات التي تحدّ من انتشار فيروس كورونا، والوقاية منه، وتشمل عادةً الآتي:
1. تنظيف مرافق المدرسة، وتعقيمها قبل بداية، وعند نهاية اليوم الدراسيّ.
2. مراقبة درجات حرارة الطلاب والمعلّمين وقياسها، ومتابعة أي أعراض قد تظهر عليهم، بالتعاون مع لجنة الصحّة المدرسيّة، وطبيب المدرسة إن وجد.
3. استخدام الكمّامات والمعقّمات، فمن الواجب على كل طالب ومعلّم الالتزام بهذه التوصية، والتأكّد من تغطية الأنف والفم جيّدًا، وتعقيم اليدين بشكل دوريّ، من أجل المحافظة على نظافتها، ومنع انتقال العدوى.
4. تقليل الاكتظاظ داخل الصفوف الدراسيّة، وتحقيق شروط التباعد بين الطلاب والمعلّمين.
5. تهوية الغرف الصفّيّة قبل دخول الطلاب، وبعد مغادرتهم لها، وترك أبوابها مفتوحة، لضمان تجدّد الهواء فيها.
الطريق الثّاني: العودة الجزئيّة إلى المدرسة
تُشكّل العودة الجزئيّة إلى المدرسة خيارًا من الخيارات المتاحة، والمتداولة في الإعلام وبين النّاس، كما أنها من الموضوعات التي كثر عنها الحوار، بسبب الخوف من حدوث أي ارتفاعات مفاجئة في معدل الإصابات بفيروس كورونا، وانتشاره لدى الطلاب والمعلّمين، ما سيعيد وضع التعليم إلى المربع الأوّل عند بداية الجائحة. ومن هنا جاء طرح فكرة العودة الجزئيّة، بصفتها الطريقة الأكثر أمانًا، وحفاظًا على صحّة القطاع التعليميّ، وجميع مكوّناته دون استثناء.
تُطبِّق العودة الجزئيّة إلى المدرسة نمط التعليم المتمازج؛ أي من خلال الجمع بين الدراسة داخل الغرفة الصفّيّة في أيّام معيّنة، والتعليم عن بُعد في المنزل في أيّام أخرى، والذي قد يساهم في الحدّ من عدوى الإصابة بفيروس كورونا داخل المدارس. ولكن في المقابل يواجه هذا الطريق في العودة مجموعة عوائق، لعل أهمّها: صعوبة مشاركة الكثير من الطلاب في متابعة دروسهم خارج المدرسة، بسبب عدم امتلاكهم الأدوات المساندة للتعلّم عن بُعد، كما قد تؤثّر سلبيًا في الحالة النفسيّة للطالب، وتجعلهُ يفقدُ الرغبة في الدراسة، والناتجة عن غياب الرقابة الكاملة من قبل المعلّمين على الطلاب، وصعوبة التواصل أحيانًا بين الطالب والمعلّم، وقلّة خبرة بعض أولياء الأمور في توجيه أبنائهم لاستخدام الوسائل التعليميّة الإلكترونيّة.
إن الاختيار بين أحد الطريقين السابقين يعتمد مباشرة على مدى نجاح الاستجابة الصحّيّة لتطوّرات انتشار فيروس كورونا على النطاق الاجتماعيّ، والتزام الأفراد والمُنشآت المختلفة بكافّة الإجراءات الوقائيّة، والتي ستنعكسُ بطبيعة الحال على القطاع التعليميّ، وتُؤهّله للعودة التدريجيّة الجزئيّة، ثم الكاملة، ما يحفظ حقّ الطلاب في الحصول على التعليم المناسب لهم. ودون أي شكّ، يظلّ التعليم الوجاهيّ الأسلوب الأفضل والأكثر جودة في التعلّم، إذ إنه لا يُعلّم فقط المهارات الأساسيّة، بل يشارك في تنمية شخصيّة الطلاب الاجتماعيّة والنفسيّة والمعرفيّة، ويوفّر إمكانيّة الدراسة باستخدام مرافق المدرسة ومحتوياتها، والتي يصعب توفيرها عن طريق التعليم عن بُعد، ومن هذا المنطلق يكون الرأي الذي يتفق عليه جميع أولياء الأمور، والطلاب، والكوادر التعليميّة، وهو ضرورة العودة الآمنة للتعليم المدرسيّ في عصر كورونا.