التعليم الرسميّ في غزّة: أمل هشّ في ظلّ الإبادة
التعليم الرسميّ في غزّة: أمل هشّ في ظلّ الإبادة
2024/09/23
منار الزريعي | معلّمة لغة إنجليزيّة- فلسطين

قطاع التعليم في غزّة يعاني أزمة غير مسبوقة. مع تواصل العدوان الإسرائيليّ الذي لا يعرف هوادة، والدمار الذي يلاحق البشر والحجر، أصبح استهداف قطاع التعليم جزءًا من الإبادة المستمرّة التي تستهدف الوجود الفلسطينيّ. لقد مضى أكثر من سنة على بداية العدوان، وخلال هذا العام خسر الطلّاب في غزّة أكثر من عامهم الدراسيّ، خسروا كلّ ما هو أثمن: خسروا أهلهم، وإخوتهم، وجيرانهم، ومعلّميهم الذين قتلهم الاحتلال بدمٍ بارد. كما فقدوا بيوتهم التي كانت تحتضن ذكرياتهم وأحلامهم. وحتّى الآن، لا يعرفون ما إذا كانوا سيعودون إلى تلك البيوت المدمّرة، خصوصًا مع إصرار الاحتلال على تقسيم القطاع إلى شمال وجنوب، وحظر الحركة بين القسمين.

في هذا السياق الكارثيّ، بات التعليم الرسميّ في غزّة شبه مستحيل. القطاع يعاني نقصًا في كلّ شيء: الطعام، الماء، الدواء، الكهرباء، فما بالك بمتطلّبات التعليم؟ في وقت يصعب فيه على الأسر الحصول على أساسيّات الحياة، يصبح التعليم بالنسبة إليهم رفاهية لا يمكن الوصول إليها.

1

(صورة مدرستي التقطّتها في أيلول/ سبتمبر 2022).

 

محاولات المؤسّسات الرسميّة لاستئناف التعليم

تتواصل المحاولات الحثيثة لاستئناف العمليّة التعليميّة بطرق بديلة ومؤقّتة. أعلنت "وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين" (الأونروا)، في أواخر تمّوز/ يوليو 2024، أنّها ستستأنف التعليم في الأوّل من آب/ أغسطس، على أن يتمّ ذلك في الملاجئ التابعة لها حيثما أمكن، بحيث يتمّ التركيز على الدعم النفسيّ والاجتماعيّ للأطفال إلى جانب التعليم. قوبل الإعلان بموجة من الانتقادات لعدم توفّر المساحات اللازمة في الملاجئ لعقد الفصول الدراسيّة، ولتفشّي الأمراض المعدية... ولاحقًا تراجعت الأونروا عن قرارها، وأجّلت استئناف التعليم.

الشهر الماضي، تداولت الأخبار أنّ وزارة التعليم في غزّة تناقش مقترحات لاستئناف التعليم الرسميّ، بشرط تحقيق وقف إطلاق النار. الخطّة المقترحة تتضمّن دمج العامين الدراسيّين 2023/2024 و2024/2025 في عام واحد، مع تقليص المناهج للتركيز على الموادّ الأساسيّة، وتوفير حزم تعليميّة متخصّصة. الخطّة ما تزال في مرحلة مسوّدة أوّليّة، وهي تعتمد على وقف إطلاق النار وتخضع لمشاورات مع الأونروا والشركاء الدوليّين.

في بداية شهر أيلول/ سبتمبر، أعلنت وزارة التربية والتعليم في الضفّة الغربيّة عن إطلاق دروس عن بُعد لطلبة غزّة في جميع المراحل الدراسيّة، يقدّمها يوميًّا معلّمو الضفّة عبر روابط إلكترونيّة. يواجه الطلّاب في غزّة صعوبات كبيرة في الوصول إلى هذه الدروس بسبب ضعف الكهرباء والإنترنت وعدم توفّرهما مطلقًا في غالبيّة مناطق القطاع. الأهالي يجدون صعوبة في فتح الروابط أو التسجيل، وتعقد الدروس بشكل مباشر فقط، من دون تسجيلات يمكن الرجوع إليها، ما يزيد التحدّيات أمام الطلّاب.

 

الواقع المأساويّ لقطاع التعليم

وفقًا لمقابلة أجريتها مع د. ريما إبراهيم الخطيب، مديرة دائرة الإشراف على المباحث العلميّة في الإدارة العامّة للإشراف والتأهيل التربويّ في وزارة التربية والتعليم العالي في قطاع غزّة، أفادتني أنّ خسائر قطاع التعليم منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وحتى نهاية تمّوز/ يوليو 2024، تقدّر بحوالي 350 مليون دولار. هذا الرقم الهائل يمثّل فقط الخسائر المادّيّة المباشرة. تدمير المدارس والمرافق التعليميّة كان واسع النطاق، حيث قُصفت المدارس بشكل مباشر أو حُوّلت إلى ملاجئ للنازحين، ما أدّى إلى تخريب المزيد من البنية التحتيّة التعليميّة.

أشارت د. الخطيب إلى أنّ معظم الأثاث المدرسيّ دُمِّر بالكامل، سواء نتيجة القصف أو بسبب استغلال المدارس كملاجئ. الكتب المدرسيّة، التي تُعدّ العمود الفقريّ للعمليّة التعليميّة، أُتلفت بشكل شبه كامل، إمّا تحت أنقاض المباني المدمّرة أو في المخازن التي استهدفتها الهجمات. حتّى الأدوات المدرسيّة والقرطاسيّة التي تعدُّ بسيطة لكنّها حيويّة لأيّ نظام تعليميّ، أصبحت غير متوفّرة في الأسواق، نتيجة لتدمير المكتبات والمخازن.

 

استئناف التعليم: التحدّيات والمتطلّبات

عندما سألنا د. ريما عن متطلّبات استئناف التعليم في غزّة على المدى القصير، أوضحت أنّ الأهمّ هو توفير بيئة تعليميّة آمنة، ومساحات إنسانيّة للأطفال للعودة إلى التعلّم. الحلول المؤقّتة تشمل توفير صفوف تعليميّة مؤقّتة، أو حتّى خيام تعليميّة متكاملة، بالإضافة إلى القرطاسيّة والكتب المدرسيّة. لكنّها أشارت إلى مشكلة كبيرة: الإنترنت شبه معدوم في غزّة، ما يجعل التعليم الإلكترونيّ صعبًا للغاية. كما أكّدت على ضرورة تدريب الكوادر التعليميّة على كيفيّة التعامل مع الطلّاب في هذه الظروف الصعبة، وكيفية تقديم المنهج بشكل يتناسب والواقع الجديد.

على المدى البعيد، ترى د. الخطيب أنّ إعادة بناء المدارس وترميم ما تبقّى منها، بالإضافة إلى توفير بيئة إلكترونيّة متكاملة، من الأولويّات. التعليم، حسب قولها، لا يمكن أن يعود إلى مساره الطبيعيّ، إلّا بعد إزالة الركام وبناء مدارس جديدة، وتوفير الأثاث والكتب والقرطاسيّة، بالإضافة إلى دعم الكوادر التعليميّة والإداريّة، وتدريبهم على التعامل مع المرحلة المقبلة.

 

2

(صورة لمدرستي من صحيفة الأيّام، أيلول/ سبتمبر 2024)

 

خطط وزارة التربية والتعليم: سيناريوهات غير مؤكّدة

في الوقت الحاليّ، تعمل وزارة التربية والتعليم في غزّة على وضع خطط استجابة لاستئناف التعليم في ظلّ استمرار الحرب. لكن كما أوضحت د. الخطيب، لا يوجد سيناريو واحد مؤكّد حتّى الآن. الوزارة تعمل على وضع عدّة سيناريوهات تعتمد على تطوّرات الأوضاع الميدانيّة. السيناريو الأوّل يتمثّل في استمرار الحرب من دون وجود حماية للمؤسّسات التعليميّة، وهذا يتطلّب تنفيذ تدابير خاصّة لاستمرار التعليم في مثل هذه الظروف.

السيناريو الثاني يتضمّن استمرار الحرب مع وجود حماية للمؤسّسات التعليميّة، ما يتيح إمكانيّة استئناف التعليم ولو بشكلٍ محدود. أمّا السيناريو الثالث، وهو الأكثر تفاؤلًا، فيفترض وقف إطلاق النار والدخول في هدنة طويلة، وهو ما يتيح تنفيذ خطّة شاملة لاستكمال العام الدراسيّ 2023/2024 وبدء العام الجديد 2024/2025.

 

بالنسبة إلى السيناريو الثالث، في حال توقّفت الحرب وتمّ التوصّل إلى هدنة طويلة الأمد، فإنّ وزارة التربية والتعليم ستعمل على تنفيذ خطّة شاملة لاستعادة التعليم بشكل تدريجيّ. هذه الخطّة تتضمّن إعادة بناء المدارس المتضرّرة، ترميم ما يمكن ترميمه، وإعادة تأثيث الصفوف الدراسيّة، بما يضمن بيئة تعليميّة ملائمة. كما سيُركّز على توفير الموارد التعليميّة الأساسيّة، مثل الكتب والقرطاسية، إلى جانب تدريب الكوادر التعليميّة على التعامل مع الطلّاب في مرحلة ما بعد الصراع. التعليم في هذا السيناريو سيتضمّن أيضًا استخدام الحلول الرقميّة والتكنولوجيّة، ولا سيّما في المناطق التي تتوافر فيها الكهرباء والاتّصالات، لضمان استمراريّة العمليّة التعليميّة.

لكن، حتّى في ظلّ هذه السيناريوهات، التحدّيات كبيرة. د. الخطيب أوضحت أنّ الوزارة تسعى لتوفير بدائل تعليميّة تتناسب مع إمكانيّات الطلبة في ظروفهم الحاليّة، مثل التعليم في الخيام أو التعليم في المنزل مع توفير الموادّ المطبوعة. ومع ذلك، هذه الحلول تحتاج إلى دعم ماليّ كبير، وشراكة مؤسّسات المجتمع المحلّيّ والدوليّ.

 

الدعم النفسيّ والاجتماعيّ: ضرورة مُلحّة

د. ريما الخطيب أكّدت أنّ الجانب النفسيّ الاجتماعيّ لا يقلّ أهمّيّة عن الجانب الأكاديميّ. الأطفال في غزّة تعرّضوا إلى صدمات نفسيّة عميقة نتيجة فقدان أسرهم وأصدقائهم ومنازلهم. هذا التأثير العاطفيّ لا يمكن تجاهله، لأنّ المدارس في غزّة كانت تشارك بشكل جوهريّ في تربية الأطفال وتعليمهم القيم والأخلاق. الآن، مع مرور أكثر من سنة على الحرب، أصبح من الضروريّ توفير بيئة تعليميّة تركّز على الصحّة النفسيّة للطلّاب والمعلّمين على حدٍّ سواء.

 

خاتمة

في ظلّ هذه المعطيات المأساويّة، لا يسعنا إلّا أن نعتبر ما يحدث في غزّة إبادة ممنهجة لا تقتصر على البشر فحسب، بل تطال التعليم والثقافة والهويّة الفلسطينيّة. الاحتلال الإسرائيليّ يستهدف التعليم بشكل متعمّد، في محاولة لإبادة الأجيال القادمة ومنعهم من الحصول على حقّهم في المعرفة والتطوّر.

التعليم حقّ أساسيّ لأطفال فلسطين، ولن يتوقّف نضالنا حتّى يحصلوا على هذا الحقّ. أطفال غزّة يستحقّون مستقبلًا أفضل، ويستحقّون أن يتعلّموا في بيئة آمنة ومستقرّة. يجب على المجتمع الدوليّ أن يتحمّل مسؤوليّته في حماية التعليم في فلسطين، وضمان استمراره على الرغم كلّ الظروف. لأنّ التعليم مفتاح المستقبل، وهو السلاح الأقوى في مواجهة الاحتلال والإبادة.